باريس ــ بسّام الطيارة
منذ ستة أشهر، وهي الفترة التي انقضت على دخول الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قصر الإليزيه، والمواطن الفرنسي «يلهث وراء أخبار ساركوزي» المتجددة كل يوم في اتجاه يتنوّع يومياً، ويُبقي المواطن ووسائل الإعلام مشدودين لما يفعله «النجم»، ومتحرّزة لما يمكن أن يفعله غداً


وعد ساركوزي الفرنسيين بـ«القطيعة» ولم يخلف وعده. فها هي القطيعة تجترح الفضاء السياسي الفرنسي، وتبعثر الكثير من عادات تعامل المجتمع السياسي مع المجتمع المدني، وتقطع أوصال «هالة الرئيس الرمز» لتجعله رجلاً عادياً. أصابت القطيعة الممارسة السياسية عبر «الانفتاح على الاشتراكيين» وإشراك عدد منهم في الحكومة، فكان أن تتطايرت خريطة الأحزاب السياسية، وتشوّهت صورتها لدى المواطن، الذي لم يعد يدري أين هي المعارضة من أكثريّة امتدت لتطال كل القوى بشكل مجتزأ.
إلا أن ما «يسحر» المواطنين و«يسمّرهم ويمنعهم من التفكير» هو «التعبئة» التي تملأ الفضاء الإعلامي بأخبار ساركوزي يومياً بشيء جديد. تخرج بين الفينة والأخرى اتهامات بـ«سيطرة بعض أصدقاء ساركوزي» على أكبر وسائل الإعلام وتسخيرها لخدمته. وقد يصح بعضها نظراً لتداخل صداقة ساركوزي بالأثرياء الذين يسيطرون على قطاعات صناعية وتجارية واسعة، وكذلك على وسائل إعلامية. إلا أن معظم المراقبين يعترف بأن سيّد الإليزيه يمتلك «براعة قلّ نظيرها في التلاعب بوسائل الإعلام».
ويتفق الخبراء على أن ساركوزي «لا يسخّر الإعلام بل يستعمله». ويقول المحلّل فرانسوا جوست، في مقابلة مع صحيفة «لو موند»، إنّ عمليّة ساركوزي التواصلية تعتمد على «الحاضر الدائم»، وهو يقصد بذلك النظرة الحديثة إلى الحياة اليوميّة التي يحملها مجتمع منذ 10 سنوات، المبنية على التلفزيون عموماً و«تلفزيون الواقع» (REALITY TV) تحديداً.
فالعملية التواصلية الساركوزية مبنية على مفهوم «الخبر الآني» البعيد عن التحليل، وهو مفهوم «يندس عبر كسل المتلقّي» ويدور حول تسليط الأضواء على الضحية والشهود المباشرين، وإشراك المتفرّج في «بناء الخبر» وتجاهل التحليل العميق لما حدث. وهو تواصل من النوع السريع جداً، بحيث يطرد أيّ خبر جديد الخبر القديم، ولا يترك للمتلقّي أي فسحة للتفكير.
منذ 6 أشهر وساركوزي يطالع يومياً مواطنيه بـ«شيء جديد»، حتى بات لا يهم ما هو الخبر المقبل الذي سوف يأتي بقدر ما يهم قدوم الخبر الجديد. ويكفي الالتفات إلى الأسبوعين الأخيرين فقط لمراقبة «مسار استراتيجيّة ساركوزي الإعلامية»، التي يمكن تشبيهها بقيادة الدراجات الهوائية. فهو استقبل الزعيم الليبي معمّر القذافي، وشغل العالم والمواطنين معه بتناقض التصريحات بشأنه، وما إن ودّعه حتى أعلن غرامه بعارضة الأزياء السابقة كارلا بروني، في إخراج مسرحي يليق بنجوم هوليوود.
وفيما كان الجميع مشغولاً بما يمكن أن تؤول إليه هذه العلاقة، افتتح قمّة الدول المانحة للفلسطينيين وفرض عليها تغييراً في الاسم ليحلّ اسم «دولة فلسطين» محل الأراضي الفلسطينية، وتلطّى وراء صداقته لإسرائيل لمطالبتها بالانسحاب من الأراضي المحتلّة. ومن ثم، وفي سياق الحضور الإعلامي الذي رافق وجود ٨٠ دولة في باريس، جمع عدداً من الصحافيّين ليوجّه إنذاراً إلى سوريا في حال عرقلتها انتخاب رئيس جمهوريّة في لبنان خلال الجلسة التي كانت مرتقبة بعد يومين.
يحبس الجميع أنفاسهم، وفي مقدّمهم الصحافيون المتابعون لأخباره، بانتظار ما يمكن أن يفعله إذا ظلّت الأمور على ما هي، كما كان متوقعاً، فيفاجئ الجيمع بإعلان «سفرة خاصّة» إلى ضفاف النيل، ما فتح فسحة التسريبات بشأن إعلان خطوبته مع «علاقته الأخيرة»، وأدار دفّة الإعلام نحو هذا الشق من الأخبار. وعشيّة اجتماع المجلس النيابي اللبناني، وفي سياق الإعلان عن تأجيل الجلسة، يخرج الناطق الرسمي باسمه، دافيد مارتينون، ليعلن أن ما قيل قبل يومين ليس إنذاراً، وليزيّن بكلامه العلاقات مع دمشق.
وبينما يرتبك البعض في الشرق الأوسط في تفسير هذه الإشارات المتناقضة، يطير الرئيس الفرنسي من فوق رأسه ليصل إلى أفغانستان في زيارة غير معلنة، ويعلن أنّ «خسارة الحرب على الإرهاب ممنوعة»، متناسياً ما كان قد أعلنه سابقاً عن رغبته في تخفيف عدد الجنود الفرنسيّين المشاركين في التحالف الغربي.
العملية التواصلية لساركوزي غير مبنية على ما تحمله من مضمون، بل تعتمد على التوقيت. إنه التوقيت المتسارع الذي لا يسمح للمواطن بالتفكير بتداعيات الأخبار ما دام أنّ الجديد منها مطمئن.
فسيّد الإليزيه أصبح يشبه الفرنسيين في ممارساتهم اليومية. فهو مطلّق مرتين، أي يدخل ضمن النسبة العامة للمطلّقين الفرنسيين. يعيش حياته الشخصيّة بحريّة تامة. لا يهمه ما يمكن أن يقال عنه، ولا يتردّد في الإعلان عن عشقه لامرأة أياً تكن. يمارس الرياضة اليومية مثل نسبة كبيرة منهم، ويسعى إلى «راتب أفضل» مثله مثل ٨٣ في المئة من مواطنيه. غير أنّه يختلف عنهم، إذ استطاع بعد 3 أشهر من وصوله إلى الحكم «تغيير راتبه وزيادته إلى الضعف»، ولكن هذا أمر يتفهّمه الفرنسيون، وهم الآن لاهثون وراء الأخبار الجديدة التي يُتحفهم بها يومياً.
بعضهم يسأل عن «أخبار قديمة» هضمها اللهاث وراء الأخبار الجديدة، مثل رفع مستوى المعيشة، ومعالجة أوضاع الموظفين والنظام الاجتماعي والطلبة والجامعات والباحثين عن مأوى، وهي مطالب أنزلت المواطنين إلى الشوارع، ونظّمت تظاهرات تحدثت عنها وسائل الإعلام قبل أن تنتقل إلى أخبار أخرى.