غزة ــ رائد لافي
مثّلت عملية «الحسم العسكري»، التي أفضت إلى سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة، الحدث الأبرز خلال العام الفلسطيني، لتداعياتها على مناحي الحياة، وتقسيمها مساحة «حلم» الدولة الفلسطينية إلى كيانين منفصلين سياسياً وجغرافياً


عانى قطاع غزة، وهو المعقل الرئيس لحركة «حماس»، موجات متلاحقة من الاقتتال الداخلي، بفعل عدم رضى تيار قوي في حركة «فتح» يتزعمه القيادي محمد دحلان، على فوز الحركة الإسلامية في أول مشاركة سياسية لها في الانتخابات التشريعية مطلع عام 2006.
وتدحرجت الأوضاع الأمنية من سيء إلى أسوأ، بعد فشل كل اتفاقات التهدئة الميدانية عقب كل موجة اقتتال داخلي، إلى أن «حسمت» حركة «حماس» الأمور لمصلحتها بقوة السلاح في عملية عسكرية شاركت فيها القوة التنفيذية، التي شكّلها وزير الداخلية السابق والقيادي البارز في الحركة سعيد صيام.
وكانت الأجهزة الأمنية الموالية لحركة «فتح» قد انهارت في 14 حزيران الماضي، بعد قتال عنيف دام ثلاثة أيام متواصلة، «هرب» بعدها عدد كبير من قادة الحركة وعناصرها من القطاع إلى مصر والضفة.
وعاشت حركة «حماس» لنحو أسبوع واحد فقط تتملّكها «نشوة» النصر، التي بدت من خلال التوصيفات التي أطلقها المتحدثون باسمها على عملية الحسم العسكري، من قبيل «معركة التطهير» و«التحرير الثاني» للقطاع، بعد التحرير الأول بالانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب في صيف 2005، حتى إن بعضهم وصف ما جرى بأنه يشبه «فتح مكة».
لكن هذه النشوة لم تستمر طويلاً، إذ استيقظت «حماس» على وقع حصارها الخانق مع مليون ونصف مليون فلسطيني في القطاع، قبل أن تعلنه الدولة العبرية «كياناً معادياً» في أيلول الماضي، لتبرير عدوانها المتنامي عليه عسكرياً واقتصادياً في إطار سياسة العقاب الجماعي لتقويض «حكم حماس».
أدركت حركة «حماس» مبكراً حجم الضغوط التي ستتعرض لها، فحاولت تبرير ما أقدمت عليه بكونه جاء في سياق القضاء على ظاهرة الفلتان الأمني، غير أن تبريرها ودعواتها المتكررة لاستئناف الحوار الوطني اصطدمت بجدار الرفض من جانب فريق الرئيس محمود عباس.
رأى أبو مازن في «الحسم الحمساوي» «انقلاباً» على مؤسسات السلطة الفلسطينية، واضعاً الكثير من الشروط للموافقة على استئناف الحوار، أبرزها تراجع «حماس» واعتذارها وإقرارها بمنظمة التحرير وبرامجها واتفاقاتها، فيما أقال رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية إسماعيل هنية، قبل أن يعلن حال الطوارئ ويكلف النائب سلام فياض تأليف حكومة إنفاذ حال الطوارئ.
رفضت حركة «حماس» قرارات عباس ومراسيمه «الانتقامية»، لتتولّد حال فريدة من نوعها بوجود كيانين وحكومتين في الضفة والقطاع، ساهم في تعزيزها دعم الدولة العبرية والولايات المتحدة والمجتمع الدولي لمواقف أبو مازن إزاء «حماس» وتشجيعه على استمرار القطيعة.
وكان حدث بارز آخر قد سبق عملية الحسم العسكري، تمثّل في اتفاق مكة الذي رعته السعودية بين حركتي «فتح» و«حماس» في الثامن من شباط الماضي، لكونه قاد إلى تأليف أول حكومة وحدة وطنية بمشاركة وطنية واسعة.
أطراف عديدة، أبرزها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، رأت في هذا الاتفاق سبباً لما آلت إليه أوضاع الساحة الفلسطينية، لأنه كان «ثنائياً» وتجاوز كل الفصائل والقوى، من دون معالجة حقيقية لملف الشراكة السياسية.
وجدت الدولة العبرية ضالّتها في الانقسام الفلسطيني، ورأت فيه فرصة تستوجب استثمارها سياسياً لتعميق هذه الحال، عبر تشجيع الرئيس عباس على القطيعة، للتقدم في مسار التسوية السياسية، فكانت الاستجابة سريعة من جانب قيادة السلطة في رام الله، وعادت الحياة لتدب في قنوات المفاوضات «المجمدة» منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول 2000.
إلا أن ذلك لم يكن مجاناً، فمع تسلّمها زمام الأمور في الضفة الغربية، عمدت حكومة سلام فياض إلى بدء حملة ضد «المسلّحين»، كانت انطلاقتها في مدينة نابلس وبمرسوم رئاسي بحل فصائل المقاومة، إذ أكد وزير الداخلية في حكومة فياض، عبد الرزاق اليحيى، في 23 تشرين الثاني الماضي، أن عباس قد «أصدر مرسوماً بحل كل الميليشيات العسكرية لكل الفصائل والحركات والقوى السياسية»، مشيراً إلى أن السلطة قدّمت تعهداً لإسرائيل بهذا الإطار.
وأرفقت حكومة فياض حملتها بما بات يعرف باسم «اتفاق المطلوبين»، الذي عمدت عبره إلى رفع أسماء كوادر الجناح العسكري لحركة «فتح» عن قائمة المطلوبين الإسرائيلية في مقابل تسليم أسلحتهم وتوقيع تعهّد «بعدم اللجوء إلى العنف» مجدداً.
وقد أثمر هذا «الاتفاق» عن تسليم العديد من قادة «كتائب شهداء الأقصى» لأسلحتهم، ما مهّد لبسط سلطة عباس سيطرتها الأمنية على مدينة نابلس، والانتقال منها إلى طولكرم وبيت لحم، كخطوة أولية نحو تفريغ الضفة الغربية من «المسلحين»، وهو ما رأت فيه «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وغيرهما، حملة منسقة على المقاومة.
معطيات كثيرة تشير إلى أن ظاهر العلاقات الفلسطينية الداخلية شديد السوء، لكن من غير المرجّح أن تستمر القطيعة طويلاً، واستئناف الحوار الوطني لن يكون سوى مسألة وقت، لسببين: أولهما أن آمال عباس بإنجاز اتفاق سلام ستتحطّم على صخرة التعنت الإسرائيلي، والثاني تفاقم الخلافات مع فياض، الذي يعمل على تقوية نفوذه في الضفة الغربية عبر توظيف أموال الدعم الدولي لمصلحته، فيما الضغوط التي يمارسها قادة في حركة «فتح» على عباس تتعاظم لإقالة فياض أو إجراء تعديل وزاري واسع في حكومته.
عباس لن يجرؤ على إقالة فياض، الذي يحظى بدعم دولي وأميركي واسع يهدّد مكانة أبو مازن نفسه، إلا إذا «حصّن» نفسه بالحوار الوطني مع حركة «حماس»، وبمشاركة باقي فصائل وقوى العمل الوطني والإسلامي، لكن يبقى أن تخطو «حماس» الخطوة الأولى لتحقيق المصالحة وإنقاذ غزة من الكوارث.