strong>محمد بدير
تحيي إسرائيل في عام 2008 ذكرى تأسيسها الستين. لا مجازفة في القول إن هذا الأمر يكاد يكون الوحيد الواضح في استشراف ما يحمله العام الجديد لسكان الدولة العبرية

خلَّف العام المنتهي أسئلة مفتوحة تتميز، إلى جانب تعقيدها، بطابعها المصيري بالنسبة إلى الإسرائيليين. لم يُفلح القادة الصهاينة، رغم تركيز الجهود التي بذلوها، في منع منسوب الخطر من الارتفاع إلى مستوى التهديد في ساحات الصراع التي بقيت مفتوحة، بل وأصبحت أكثر سخونة.
هذه هي حال الجبهة الفلسطينية المتوثّبة إلى مواجهة مؤجلة، لكنها حتمية على الأرجح، في قطاع غزة. كما أنها حال الجبهة الشمالية التي لم تزدها الفترة الفاصلة عن عدوان تموز 2006 إلا توقّداً تحت الرماد بانتظار لحظة الحقيقة الآتية، فضلاً عن جبهة إيران النووية التي استفاقت تل أبيب أخيراً، على وقع تقرير الاستخبارات الأميركية، لتجد نفسها وحيدة قبالتها.
تجد هذه الصورة المركبة تلخيصاً معبّراً لها في ما قاله رئيس الأركان الإسرائيلي، غابي أشكنازي، أخيراً، في كلمة له أمام معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب. شرح الجنرال، من وجهة نظر المؤسسة التي يرأسها، مآلات الوضع الإقليمي المحيط بكيانه بالقول إنه ينطوي على تغيّرات مفتوحة على احتمالات عدم الاستقرار، وإمكان خوض حرب على أكثر من جبهة.
يلتقي كلام أشكنازي، جزئياً، مع التقدير الاستخباري القومي لعام 2008 الذي أوردت «يديعوت أحرونوت» موجزه قبل أسبوعين على موقعها الإلكتروني، (وكان لافتاً سحبه من الموقع بعد ساعات معدودة). يبدي التقدير تشاؤماً حيال إمكان إجهاض الطموحات النووية الإيرانية، متوقعاً تجاوزها للعقبة التكنولوجية التي تمكّنها من تخصيب كمية كافية من اليورانيوم لإنتاج قنبلة نووية واحدة (5 كيلوغرامات) في عام 2009.
ينسحب التشاؤم على الساحة الفلسطينية في ظل توقع ازدياد خطر صواريخ «القسام» وارتفاع القدرات القتالية لحركة «حماس» في قطاع غزة، كمّاً ونوعاً. وبرغم عدم تصنيف هذا الخطر في خانة «الوجودي» بالنسبة إلى إسرائيل، إلا أنه من الواضح أن حضوره اليومي، الفاعل والمؤثر، حوّله إلى استحقاق داهم تستقبل تل أبيب العام الجديد وهي في ذروة سجال بشأن سبل مواجهته في ضوء المعضلة التي ينطوي عليها. فالتسليم به ليس وارداً، والحل العسكري الجذري مفتوح على أرجحية الغرق في مستنقع القطاع مجدداً من دون أفق سياسي للخروج منه، فيما التجارب المتكررة للتصعيد المحدود الوتيرة لم تفضِ إلا إلى حرب استنزاف متفاوتة الزخم.
أما في ما يتصل بالساحة الشمالية، فتُبدي إسرائيل تفاؤلاً حذراً مردّه أمران: الأزمة اللبنانية الداخلية، والتحسّن في قدرة الردع الإسرائيلية. الأول يشاغل كلاً من حزب الله وسوريا عن عدوتهما الجنوبية. والثاني منشؤه، من دون أن تصرِّح إسرائيل بذلك، الغارة على دير الزور في العمق السوري. بيد أن استبعاد احتمال الحرب، على هذه الجبهة، يترافق مع تنامٍ خطير، من المنظور الإسرائيلي، في قوة العدوّين الشماليين، وخاصة لجهة التسليح.
فقد فاضت صفحات الصحف الإسرائيلية على امتداد العام المنتهي بتقارير «توثّق» أنواع السلاح ـــــ الصاروخي على وجه التحديد ـــــ التي أصبحت في حوزة حزب الله وسوريا. بالنسبة إلى الحزب، أقرّت بعض التصريحات الرسمية الإسرائيلية بأنه ضاعف ترسانته عما كانت قبل عدوان تموز. أما الـ1701، فلم يبق منه سوى شكوى إسرائيلية من انشغال اليونيفل في حماية أنفسهم على حساب مهمة نزع سلاح المقاومة في جنوبي الليطاني، مصحوبة بخشية معلنة من رحيلهم المبكر على خلفية تفاقم حالة التأزم في الموقف الداخلي اللبناني.
بالانتقال إلى الشق الداخلي من مسرح المتابعة الإسرائيلية، يبرز الحضور الطاغي لتداعيات عدوان تموز في النصف الأول من العام على الأقل. فقد افتتح 2007 بالحديث عن ورشة «إعادة إنتاج» للجيش الإسرائيلي، تنظيماً وتأهيلاً وتخطيطاً، في ضوء نتائج الحرب التي عرَّته أمام مجتمعه والأصدقاء، فضلاً عن الأعداء. ولم تكد خطط هذه الورشة تُقرّ حتى فجّر رئيس الأركان السابق دان حالوتس قنبلة استقالته غير المفاجئة، مستبقاً الحكم المعنوي عليه بفعل ذلك من جانب تقرير فينوغراد، بحسب ما رجّحته التوقعات في حينه. يجدر التذكير بأن استقالة حالوتس كانت حلقة وسطية في سلسلة خطوات مماثلة سبقه إليها سابقون، كقائد المنطقة الشمالية، أودي آدم، ولحقه فيها لاحقون، منهم قائد سلاح البحرية، الجنرال دافيد بن بعشات.
ثم جاء التقرير ليُحدث زلزالاً في أركان الحلبة السياسية الإسرائيلية، حاسماً السجال المكابر من جانب فريق الحرب بشأن «إنجازاتها» المزعومة. أطلق تقرير فينوغراد حكمه المدوّي: في إسرائيل قيادة فاشلة خاضت وأدارت حرباً فاشلة. حدة الاهتزاز الذي خلّفه «زلزال فينوغراد» لم تكن كافية لإطاحة أولمرت من رئاسة الحكومة، وإن أحدثت شروخاً جدية، ما لبثت أن رممت، في تماسكها، كان أبرزها التمرد الوديع الذي مارسته وزيرة الخارجية تسيبي ليفني على أولمرت.
إلا أن تداعيات التقرير لم تقتصر على ذلك، وكان لها دور رئيس في استقالة وزير الدفاع، عامير بيرتس، من منصبه، ولاحقاً في إطاحته من رئاسة حزب العمل ليخلفه إيهود باراك في المنصبَين، مدشِّناً مساراً يطمح علناً إلى أن يقوده إلى خلافة أولمرت على كرسي رئاسة الحكومة.
يمكن القول إن الأداء السياسي لأولمرت، الذي حطّم الرقم القياسي في تدنّي الشعبية، منذ صدور التقرير الأوّلي للجنة فينوغراد، بل حتى قبله، كان مهجوساً بكيفية استئناف حكم الإعدام السياسي والمعنوي الذي أصدره التقرير بحقّه من جهة، وبكيفية التملّص من ملفات التحقيق التي فُتحت في وجهه بشبهات فساد مالي من جهة أخرى.
في سبيل ذلك، كان لا بد من اللجوء إلى الوصفة المعروفة في أنماط السلوك السياسي الإسرائيلي إزاء أوضاع كهذه: أولاً، إعادة تعويم الذات على صعيد الرأي العام من خلال عملية عسكرية نوعية على أحد الأعداء، تُقدَّم على أنها إنجاز استراتيجي، وهو ما حصل في دير الزور في أيلول الماضي. وثانياً العمل على إطلاق مسار سياسي ذي مقبولية على المستوى الشعبي، وهو ما حصل على الصعيد الفلسطيني مع رئاسة السلطة الفلسطينية، وتُوِّج في مؤتمر أنابوليس.
يمكن أن يقال إن أولمرت تمكّن عبر مؤتمر أنابوليس من استصدار بوليصة تأمين على ائتلافه الحكومي لمدة عام على الأقل، إلا أن هذه المقولة تبقى محدودة الضمانة في ضوء ما يمكن أن يخلص إليه التقرير النهائي لفينوغراد، المتوقع صدوره مطلع العام المقبل.