strong>حسام كنفاني
يطوي عام 2007 أيامه الأخيرة على حال عربية متشرذمة، إذ لم تفلح المصالحات الجزئية في إعادة الوئام إلى أقطاب السياسة العربية، مع ما لذلك من ارتدادات إقليمية ستنتظر تطورات عام 2008، الذي من المرتقب أن يكون مفصلياً في تحديد توجهات الخلاف العربي

كان العام الجاري حافلاً بتطورات عربية، أرجحت العلاقات بين التهدئة المرحلية والتأزم المطلق. ولم تفلح الوساطات في إعادة العلاقات إلى طبيعتها ضمن المحور المصري ـــــ السوري ـــــ السعودي، الذي كان متحكّماً في مفاصل السياسة العربية في الماضي.
الشقاق بين أطراف هذا المحور، والذي بدأ منتصف عام 2006، وصل إلى درجة عالية من التوتر في 2007، الذي شهد إعلاناً رسمياً للقطيعة، بين الرياض ودمشق تحديداً، عبر سجال إعلامي حاد اللهجة، وذلك للمرة الأولى في تاريخ العلاقة بين البلدين.
خلاف وقطيعة لا شك في أنهما سيرافقان العلاقات العربية إلى العام المقبل، وسيكون لهما تأثير كبير في تحديد توجّهاتها، وخصوصاً أن استحقاق القمة العربية المرتقبة في آذار سيكون حاسماً لتحديد قدرة العرب على القفز فوق خلافاتهم والتمهيد لإعادة المياه إلى مجاريها بين أقطابهم.
وللقمة العربية المقبلة، التي يفترض أن تحتضنها دمشق، أهمية استثنائية لاعتبارات عديدة، قد يكون أبرزها أنها من المفترض أن تشهد تسلّم سوريا رئاسة القمة من السعودية، ما يحتّم حضوراً سعودياً رفيع المستوى. إلا أن تطور العلاقة بين البلدين لا ينبئ إلى اليوم بتحقّق مثل هذا الحضور، ولا سيما أن ملامح الوساطة بين الطرفين غائبة حالياًففي بداية العام الماضي، وبعد حال التوتر القصوى التي أنتجها خطاب الرئيس السوري في آب 2006، بعد عدوان تموز على لبنان، عندما هاجم «أنصاف الرجال» الذين انتقدوا عملية المقاومة اللبنانية لأسر الجنديين الإسرائيليين في الثاني عشر من الشهر نفسه، في إشارة تحديداً إلى السعودية ومصر، شهدت العلاقات تحسّناً. جاء ذلك بفعل وساطة تولّاها الجانب المصري، وأثمرت مشاركة الرئيس بشار الأسد في قمّة الرياض، التي شهدت أيضاً قمّة سعودية ـــــ سورية أشارت إلى احتمال عودة مياه العلاقات إلى مجاريها. حال من الوئام سادت العلاقات بين البلدين لفترة لم تتجاوز الأشهر، لتعود بعدها إلى الانفجار علناً في آب الماضي، بعد مداخلة نارية لنائب الرئيس السوري فاروق الشرع، الذي رأى أن الدور السعودي «مصاب حالياً بما يشبه الشلل»، مدللاً على ذلك بمؤشرين: أولّهما، فشل تنفيذ اتفاق مكة بين الأطراف الفلسطينية المتنازعة، والذي رأى أن بنوده جرى التوصل إليها في دمشق. والثاني، الغياب السعودي عن الاجتماع الأمني لدول جوار العراق في العاصمة السورية.
تصريحات الشرع استدعت حينها ردّاً نارياً سعودياً، تولّته «مصادر رسمية» رأت الكلام «نابياً» و«كاذباً»، متهمة دمشق بـ«نشر الفوضى والقلاقل في المنطقة». حفل التراشق الإعلامي عاد ليتكرّر مطلع كانون الأول الجاري بعد خطاب الشرع أمام مؤتمر «الجبهة الوطنية» الحاكمة في سوريا، وكلامه خصوصاً عن الوضع اللبناني الذي يعدّ أحد أسباب الشقاق السوري ـــــ السعودي، ولا سيما أن نائب الرئيس السوري رأى أن نفوذ بلاده في لبنان بات «أقوى من ذي قبل». وهو ما استدعى بدوره رداً سعودياً، تولّته هذه المرة الصحف السعودية، التي وصفت الشرع بأنه رمز «الشرخ» في العلاقات العربية ـــــ العربية.
ولم يفت الشرع في مداخلته أمام «الجبهة» الغمز من القناة السعودية، عبر الإشارة إلى أن تحديد موعد القمّة الإسلامية في السنغال في 13 و14 آذار المقبل «غير بريء»، ولا سيما أنه يأتي قبل أيام من القمة العربية التي تعقد عادة في الأسبوع الثالث من آذار. الإشارة إلى السعودية هنا تكمن في رئاستها أيضاً لمؤتمر القمة الإسلامية، الذي انعقد للمرة الأخيرة، استثنائياً، في السادس من كانون الأول 2005 في مكة. وفي مراجعة لجدول تواريخ انعقاد القمّم الإسلامية، فإنها في الغالب كانت تعقد، في دوراتها العادية، بين أشهر تشرين الأول وكانون الثاني، باستثناء «المؤتمر الطارئ» الذي عقد في الدوحة في السادس من آذار 2003.
ولا يمكن فصل تاريخَي انعقاد المؤتمرين الإسلامي والعربي عن الخلاف السوري ـــــ السعودي، الذي، على عكس بداية العام الجاري، لا يمكن للقاهرة القيام بوساطة فيه، على اعتبار أنها باتت أحد أطرافه، ولا سيما أن التقسيم الأميركي للدول العربية وضع القاهرة ودمشق على طرفي نقيض: فالأولى في «محور الاعتدال» مع السعودية والأردن ومعظم دول الخليج، فيما الثانية في «محور التطرف» مع إيران.
ورغم أن الخلاف المصري السوري لم يظهر بوضوح إلى العلن، كما هو الحال مع السعودية، إلا أن تسريبات كثيرة وأنباءً متداولة أشارت إلى قطيعة «مستترة» بين القاهرة ودمشق، اللتين لم يتبادل أي من مسؤوليهما الزيارات الرسمية منذ القمة العربية، باستثناء زيارات وزير الخارجية السوري وليد المعلّم إلى مصر للمشاركة في اجتماعات وزارء الخارجية العرب، والتي كان أحدها ساحة للسجال السعودي ـــــ المصري ـــــ السوري بعد عملية «الحسم العسكري» في قطاع غزة في حزيران الماضي، والتي قاطعها حينها المعلّم وحضرها المندوب السوري الدائم لدى الجامعة يوسف أحمد.
وبغياب الوساطة المصرية، شهد عام 2007 اختراقات في العلاقات العربية ـــــ العربية، قد تخوّل أطرافاً أخرى أداء الدور المصري بين دمشق والرياض وحتى بين دمشق والقاهرة. ففي بداية تشرين الثاني الماضي، قام الملك الأردني عبد الله الثاني بزيارة مفاجئة إلى سوريا حيث التقى الأسد، في خطوة عُدّت مؤشّر انطلاق لعودة الحياة إلى العلاقة السورية ـــــ الأردنية بعد جمود دام نحو ثلاث سنوات. زيارة تلاها إحياء اللجنة العليا الأردنية ـــــ السورية وتوقيع 12 مذكّرة تفاهم وتعاون.
اختلفت تفسيرات التقارب السوري ـــــ الأردني، ولا سيما أنه جاء سابقاً للإعلان الرسمي السوري عن المشاركة في مؤتمر أنابوليس للسلام، التي ربطها العديد من التحليلات بزيارة الملك الأردني، مرجّحة أن يكون قد نقل إلى الأسد ضمانات بتلبية مطلب دمشق لجهة إدراج الجولان المحتل على جدول أعمال المؤتمر الدولي وإلحاقه بمؤتمر مكمل يعقد في موسكو.
إلا أن تفسيرات أخرى أشارت إلى أن التقارب بين قطبَي محوري «الاعتدال» و«التطرف» مردّه إلى خشية عمان من صفقة إسرائيلية ـــــ فلسطينية على حساب المصالح الأردنية، ولا سيما أن المملكة الهاشمية تضم العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما أشار إليه صراحة الشرع، في محاضرته أمام «الجبهة التقدمية»، حين قال إن «هناك قلقاً تاريخياً من أن يكون الأردن بديلاً من الدولة الفلسطينية، وعمان تؤمن بأن العلاقات السورية ـــــ الأردنية درع دون ذلك».
التفسير الثالث أشار إلى الحاجة الأردنية الملحّة إلى المياه، التي كانت أحد أسباب التوتّر بين دمشق وعمّان، ولا سيما أن الأردن يطالب بحصته من مياه نهر اليرموك ويتهم سوريا بحفر الآبار الارتوازية على امتداد الحدود، وبالتالي استنزاف الحوض المائي المشترك، إضافة إلى إقامة السدود لحجز مياه الأمطار وحرمان الأردن من الاستفادة من جريانها.
وبغض النظر عن التفسيرات، فالتقارب السوري ـــــ الأردني بات واقعاً من الممكن استثماره لاحقاً في تذليل الخلافات السابقة للقمّة العربية، ولا سيما أن العلاقة الأردنية ـــــ السعودية ـــــ المصرية في أوجها.
واقع تقارب آخر من الممكن استثماره في السياق نفسه، تمثّل في عودة المياه إلى مجاريها بين السعودية وقطر بعد سنوات من التوتّر، كانت قناة «الجزيرة» جزءاً منه، إضافة إلى الطموح القطري في أداء دور ريادي في المحيط العربي. توتر بلغ أوجه حين قررت الرياض سحب سفيرها في الدوحة عام 2002.
كسر الجليد في العلاقة جاء مع زيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى الرياض ولقائه الملك عبد الله في إطار التحضير للقمة الخليجية التي عقدت في الدوحة مطلع كانون الأول الجاري، والتي حضرها الملك السعودي، ليعلن بعدها وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل إعادة السفير السعودي إلى الدوحة.
إلى اليوم لم يترجم هذان التقاربان على الخط السعودي ـــــ المصري ـــــ السوري تحضيراً للقمّة العربية، إلا أن الأشهر الأولى من العام المقبل لا بد من أن تشهد مثل هذا التحرّك، ولا سيما أن انتقال الخلاف إلى القمّة من شأنه أن يكون نقطة مفصلية في العلاقات بين الأطراف، ويفرز معسكرين عربيين. فالمقاطعة السعودية للقمة، أو خفض مستوى التمثيل، من شأنه أن يؤثّر على مستوى تمثيل العديد من الدول التي تدور في فلك الرياض، وفي مقدّمها الدول الخليجية أو الدول الطامحة إلى المساعدات الخليجية. والأمر نفسه بالنسبة إلى القاهرة، فضلاً عن الغياب اللبناني المرتقب في ظلّ استمرار أزمة الفراغ الرئاسي، والقطيعة بين الحكومة الحالية ودمشق.
هذه المعطيات تعطي القمّة المقبلة أهمية استثنائية: فشلها لا بد من أن يعمّق الخلاف ويطبع عام 2008 بأزمات متفاقمة. أما النجاح، فقد يعني فتح آفاق حلول على أكثر من أزمة عربية وإقليمية مرتبطة خيوطها بالمحور السوري ـــــ السعودي ـــــ المصري.