باريس ــ بسّام الطيارة
لن يمرّ عام ٢٠٠٧ في تاريخ فرنسا مرور الكرام، فهو كان مليئاً بالتغيرات والتحولات التي يمكن أن تترك آثاراً بارزة في المستقبل على المديين المتوسط والبعيد، بعدما كانت «ثورة» على المدى المنظور


شهد الفرنسيون خلال هذا العام تحولات في كل معلم من معالم حياتهم، من الممارسة السياسية إلى العادات الاجتماعية مروراً بصورة المواطنية وانعكاس نظرة كل فرنسي لها، بعدما أدّت الأحداث إلى وضع قضية المهاجرين في واجهة التعامل السياسي، وفي بعض الأحيان التداخل بين «العلم والعنصرية» ليضعه في متناول كل من رغب في ركوب موجة صراع الحضارات ونقلها إلى داخل «الجمهورية».
فماذا بقي من فرنسا، التي تفخر بأنها أوجدت شرعة حقوق الإنسان وأنها جعلت من العلمانية في مقدمة تطورها وبناء الوطن؟ أحداث كثيرة بارزة على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية تقول إن فرنسا تغيرت بشكل «ثوري» وإن لم يلتفت المواطن الفرنسي «كفاية» إلى هذا التغيير.
ففي السياسة، «اقتحمت المرأة» آخر معاقل الرجولية بوصول سيغولين رويال إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية وجمعها ما يزيد على ١٧ مليون صوت. ورغم خسارتها، فإنها كسرت ما كان يعدّ حكراً على الجنس الخشن وأزاحت من طريقها «فيَلة الحزب الاشتراكي» العريق، وفرضت ما بات يعرف بـ«الحوار الإشراكي»، عبر إشراك القاعدة في أخذ قرارات الترشح ووضع برامج المرشحين.
كذلك فرضت الانتخابات الرئاسية خريطة جديدة جداً على الفضاء السياسي الفرنسي، حيث «اختفى» الحزب الشيوعي الذي كان حتى الأمس القريب القوة الثالثة في الحياة السياسية الفرنسية، وكذلك تراجعت قوة اليمين المتطرف بعدما صبت كل أصواته في «جعبة اليمين الوسطي الجمهوري الديغولي» للحزب الحاكم، الذي اختار نيكولا ساركوزي ليمثله بعدما زالت عنه «ديغوليته» ولم يبق منها سوى صدى خطابات تخرج بها أقلية في صفوفه.
ويظهر الابتعاد عن الديغولية التاريخية في مجالي السياسة الاجتماعية والسياسة الخارجية. وأيضا في تنظيف صفوف قيادات الحزب من «كل الطاقم القديم» وإبدالهم بليبراليين جدد كانوا حتى فترة قريبة يعتبرون أبعد عن الديغولية من الشيوعيين أنفسهم.
وكانت أولى خطوات الرئيس الجديد موجهة لإبراز هذا التباعد عن السياسة الاجتماعية التي سارت عليها الحكومات السابقة، أياً كان تلوينها السياسي، والتي ميّزت فرنسا بين الدول الغربية بنظام «يعقوبي ليبرالي» يعتمد على إعادة توزيع الثروة عبر نظام ضرائبي يأخذ من الأغنياء «ليغذّي النظام الاجتماعي العام وليدعم نظام التربية العام»، بحيث تتكفّل الدولة بالتعليم والطبابة وتأمين معاشات نهاية الخدمة، إضافة إلى تموين الإجازات السنوية الإجبارية لكافة شرائح المجتمع؛ فكانت قرارات الحكم الساركوزي الجديد خفض الضرائب عن الأغنياء ورفع الضريبة عن الإرث والدفع نحو تفكيك أنظمة الضمان الاجتماعي للعديد من الهيئات والموظفين، إضافة إلى زيادة سنوات العمل قبل التقاعد لتصبح أربعين سنة، مع السماح «لمن يريد بالعمل خلال الإجازات»، وهو ما كان ممنوعاً لإتاحة فرص لأكبر عدد ممكن من العمالة.
أما في مجال التربية والتعليم، فإن التوجه نحو «خصخصة التعليم العالي» في المرحلة الأولى هو في طريقه إلى واقع التطبيق رغم نفي الجهات الوزارية المسؤولة؛ فالقوانين التي «تحتم على الجامعات الاستقلالية المالية» قد وضعت حيز التنفيذ رغم معارضة الطلاب ونزولهم المتكرر إلى الشوارع.
ولا يتوقف «الابتعاد والتجديد» في السياسة الفرنسية، وهو ما عرّفه ساركوزي بـ«القطيعة»، على هيكلية النظام الاجتماعي فحسب، بل إن ساركوزي، الذي احتل لسنوات وزارة الداخلية، كان قد بدأ بالضغط على «عامل المهاجرين وربطه بأحوال الضواحي»، وهو ما قاد قبل سنتين إلى ثورة الضواحي. وقد رأى العديد من المراقبين أن هذه الطروحات كانت بهدف «كسب أصوات اليمين الشوفيني المتطرف»، إلا أن هذا لم يمنع الرئيس المنتخب من متابعة «سياسة هجرة متشددة» تمثلت في إنشاء «وزارة هوية وطنية وهجرة»، وهو ما أثار الكثير من العاملين في الشأن الاجتماعي الذين رأوا فيه تأليباً على الفئات المهاجرة.
وقد دفعت هذه الإجراءات المتسارعة والسريعة بقطاعات واسعة من العمال والموظفين والطلبة إلى الشارع في تظاهرات كانت الأكبر منذ ما يزيد على عشر سنوات. إلا أن فرنسا شهدت «أيضاً» تحولاً في طريقة التعامل مع الإضرابات العمالية التي يراها البعض «من مميزات الحياة الاجتماعية العمالية الفرنسية»، والتي كانت حتى زمن قريب تجعل فرائص الحكومات ترتعد، بحيث تكون دائماً القوانين هي نتاج «توافق بين مطالب عمالية متطرفة والقوانين المطروحة»، وهو ما سمّاه بعض المراقبين «الطريق الوسطي بين الشارع والقصر» الذي حكم فرنسا منذ الثورة الكبرى.
إلا أن الحكم الساركوزي الجديد أدخل «نبضات من التاتشرية» المتصلبة في مواجه الموجات الإضرابية، وزاد عليها «لمسات ساركوزية» في استعمال الإعلام لـ«تنفيس الإضرابات» وتوجيه ملامة المواطنين نحو المضربين عوضاً عن الحكومة. ولم يتردد البعض باتهام وسائل الإعلام الكبرى بـ«السخرة في خدمة الساركوزية» نظراً لارتباطات أصحابها بصداقة مع سيد الإليزيه.
ويمكن القول إن «الفريق الإعلامي لساركوزي» أدخل نبضاً جديداً في «مسار إدارة دفة البلاد» عبر استعمال الزخم للإعلام الحديث وبشكل تجاوز ما يحصل في الدول الأنكلوساسونية، لدرجة أنه إذا سئل مواطن فرنسي ما هي الحركات الإضرابية التي شهدتها فرنسا هذه السنة فهو عاجز عن ذكرها.
إلا أن المواطن الفرنسي بات يعرف تفاصيل الحياة الخاصة لحكامه بشكل لم يخبره سابقاً، وهو أيضاً من نتاج هذه السنة «الخاصة». فقد تابع الفرنسيون «بشغف» قصة ابتعاد الزوجة السابقة لساركوزي، سيسيليا، مع عشيقها إلى نيوريورك والإرهاصات التي فرضتها قصة صورتها وهي تقبله على الصفحات الأولى للمجلات الفرنسية في عز الحملة الانتخابية. وبعد عودتها ودخولها الإليزيه، التفت المواطن الفرنسي ليتابع قصة طلاق منافسته رويال من «مساكنها» فرانسوا هولاند. وما إن انتهى هذا المسلسل، حتى عادت سيسيليا إلى واجهة الأحداث بإعلان طلاقها وخروجها من القصر الرئاسي، بعدما ضجت الصحافة بـ«دلعها في أميركا» وتدخلها للإفراج عن الممرضات البلغاريات. ورأى البعض أنه آن أوان الراحة وأن العطلة ستكون لإعادة النظر بأحداث السنة. إلا أن ساركوزي فاجأ مواطنيه مرة أخرى بالإعلان عن «مغامرة غرامية جديدة» مع كارلا بروني أنست المتابعين «هموم السنة»، فنجح في إزالة «علامات الإضراب». ويبقى السؤال: هل ينجح العام المقبل في إزالة أسبابه؟