strong>أرنست خوري
• الإسلاميون يحاصرون العسكر... والقنبلة الكرديّة تهدِّد بالانفجار

لو كان لمصطفى كمال (أتاتورك) أن يتكلّم وهو في قبره، لكان على الأرجح، لعن عام 2007، وشطبه من تاريخ تركيا الحديثة؛ فرحلة التطبيع بين تركيا القوميّة والتيّار الشعبي ذي الجذور الإسلاميّة، استغرقت زهاء قرن من الزمن، تاركة لعام 2008 إرثاً ثقيلاً من الملفّات العالقة داخليّاً وخارجيّاً

صحيح أنّ تركيا عرفت بين 1996 و1997 عاماً من التعايش الصعب بين الإسلاميّين والعلمانيّين، انتهى بانقلاب «ناعم» على «مهندس» الإسلام السياسي التركي ورمزه، نجم الدين أربكان. إلا أنّ عام 2007 سيبقى، من دون شكّ، تاريخاً مفصليّاً لكونه كرّس «انقلاباً ديموقراطيّاً» لكن في وجهة معاكسة؛ فرغم أنّ تطوّرات كبيرة طرأت على ملفّات داخلية وخارجيّة عالقة، أبرزها الملفّ الأوروبي لتركيا وقضيّة الأكراد وقبرص والعلاقات مع العالم العربي ومع الولايات المتحدة، إلا أنّ الأبرز يبقى، من دون منازع، أنّ هذا العام كرّس سيطرة حزب العدالة والتنمية على البرلمان والحكومة والرئاسة، هذا الحزب الذي يُعَدُّ وريث الحركة الإسلاميّة التي اتخذت أسماء عديدة بدءاً من «النظام الوطني» و«السلامة الوطني» و«الرفاه» و«الفضيلة» و«السعادة».
وانتظر رجب طيّب أردوغان وعبد الله غول وزملاؤهما في الحزب الإسلامي المعتدل حتى عام 2007، ليصيبوا ثلاثة عصافير في حجر واحد: الفوز بغالبيّة كاسحة في الانتخابات التشريعيّة، وانتخاب عبد الله غول رئيساً للبلاد، ومعه خير النساء غول، السيّدة الأولى التي ترتدي الحجاب مصدر رعب العلمانيّين. والأهم، تعديل الدستور بما يجعل غول آخر رئيس تركيّ ينتخبه النوّاب، بعدما أصبح الدخول للقصر الرئاسي خاضعاً للاقتراع الشعبي المباشر.
ولمّا كان عسكر البلاد وعلمانيّوها قد اعتادوا إسقاط معارضيهم في الشوارع، افتعلوا أزمة دستوريّة على قاعدة أنّ انتخاب غول رئيساً يخالف المبادئ العلمانيّة للبلاد، واستنفروا أكثر من مليون تركي ملأوا الشوارع في تظاهرات امتدّت من شهر نيسان حتّى تمّوز الماضي. لكن كان واضحاً أنّ غطاءً شعبيّاً دعم «العدالة والتنمية»، رغم أنّ الحركة الإسلاميّة لم تلجأ إلى استنفار الشارع، ما كان يمكنه أن يؤدّي إلى مواجهات مباشرة.
وإلى جانب اعتدال الحزب الإسلامي الحاكم، لا شكّ في أن عوامل عديدة أدّت إلى نجاحه في الحفاظ على موقعه الذي شغله منذ 2002، وإلى تحقيق المزيد من المكاسب في البرلمان والرئاسة، أبرزها:
ـــــ نجح هذا الحزب في الحفاظ على نموّ اقتصادي لم يقلّ عن 7 في المئة في السنوات الأخيرة.
ـــــ تمكّن من الموازنة بين جذوره الإسلامية وعدم الإخلال بالعلاقة الدقيقة مع العقيدة العلمانيّة في البلاد، إذ تحاشى أردوغان منذ 2002، إثارة قضايا دينيّة ـــــ اجتماعيّة حسّاسة في البلاد، فقبِل على مضض تأجيل مناقشة مسألة الحجاب الإسلامي، ورأى أنّ حلّ الموضوع «لا يمكن أن يتمّ إلا عبر توافق اجتماعي». كما رضخ للعلمانيّين ولم يخض معركة كسر عظم لاعتبار أنّ الزنا جريمة يعاقب عليها القانون. كما لم يخض معركة للسماح بتعدّد الزوجات.
ـــــ تمكّن فريق العدالة والتنمية من تقديم صورة مشرقة لتركيا بالنسبة إلى المحيط الآسيوي كما الغربي. فحسّنت تركيا علاقاتها، التي وتّرها العلمانيّون على امتداد عقود، مع المحيط العربي المسلم، كما استطاع أن يقول للغرب المسيحي إنّ إسلامه لا يدخل بشكل من الأشكال في مشروع صدامي، بل يمكن أن يكون نسخة منفتحة من «حوار الحضارات».
ـــــ حاول أردوغان خصوصاً كسر النمطية في التعاطي مع أكراد البلاد باعتبارهم مواطنين من الدرجة العاشرة، وهم الذين يظلّون المشكلة الأكبر بالنسبة إلى «وحدة التراب» التركي منذ مطلع القرن الماضي. وبما أنّ اعتبار أبناء القوميّة الكرديّة متساوين في الحقوق والحريّات مع المنحدرين من القوميّة التركيّة هو من المحرّمات الاجتماعيّة والقوميّة، راعى الفريق الحاكم دقّة المسألة، فلم يتخطَّ الخطوط الحمر. صحيح أنّه لم يغيّر الدستور ليعتبر أنّ اللغة الكرديّة لغة رسميّة في البلاد (ولا يزال أكثر من 15 إلى 20 مليون كردي يحظون بمدرستين خاصّتين فقط تعلّمان باللغة الكردية)، إلا أنّه جهد لتشريع وجود أحزاب كرديّة تمثّلهم سياسيّاً، كما سعى إلى التقرّب منهم ووضع تشريعات تؤول إلى استيعابهم ضمن المؤسّسات الحكوميّة بأقلّ ثمن ممكن. ويبدو أنّ قادة الحكومة الحاليّة، سيجدون أنفسهم العام المقبل أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ فإمّا أن يقرّروا السير قدماً في العفو عن مقاتلي «حزب العمّال الكردستاني» ويبدون نوعاً من التسامح إزاء الأحزاب الكردية (المجتمع الديموقراطي)، ويحضّرون لإبرام «عقد اجتماعي» جديد بين المكوّنات القوميّة للبلاد، وهو ما يعرضهم لردّ فعل علماني وعسكري قد يطيحهم ديموقراطيّاً أو عسكرياً، أو يقرّرون الاستمرار في مسايرة العسكر بما يختصّ بهذه الأزمة الوجوديّة، ويكون عليهم أن يواجهوا المزيد من العنف، ليس على حدودهم الجنوبيّة الشرقيّة فحسب، بل في قلب إسطنبول وأنقرة والأناضول.
ويجمع معظم المراقبين على أنّ «حرب» العسكر والعلمانيّين ضدّ «العدالة والتنمية» إزاء المشكلة الكرديّة، لا ترتبط بسلوك أردوغان وغول إزاءها، بل تندرج ضمن حملة منظّمة ضدّ حزبهما ظاهرها القضيّة الكردية. بمعنى أنه حتّى لو تبنّت الرئاسة والحكومة موقف العسكر كليّاً من الأكراد، فلن ينالا الرضا، بل ستكون الطبقة الحاكمة حاليّاً في انتظار انقلاب «ناعم» أو عسكري، يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 2002.
هكذا يسلّف عام 2007 خلفه 2008 أزمة عادت لتتصدّر اهتمامات الأتراك؛ فبعد هدوء نسبي في الداخل الأناضولي وعلى الحدود العراقيّة، كان 2007 أكثر عام دموي منذ الهدنة التي دامت منذ عام 2003 تقريباً مع «العمال الكردستاني، ما دفع البرلمان إلى إصدار قانون تفويض الجيش اجتياح كردستان العراق. اجتياح لا يزال خياراً في جيب أنقرة، إذ يبدو أنّ الاتفاقات بين الأتراك والأميركيّين والعراقيّين أرست صيغة تقوم على السماح للجيش التركي بإجراء عمليّات نوعيّة موضعيّة على الحدود العراقيّة من دون تهديد استقرار كردستان العراق، المنطقة الوحيدة الهادئة في بلاد الرافدين منذ احتلاله عام 2003.
وبما أنّ عام 2007 كان مفصليّاً داخليّاً، طغت هذه التطوّرات على الهدف الذي بقي أساسيّاً لفترة طويلة بالنسبة إلى السياسة الخارجيّة لتركيا، ألا وهو ملف ترشيحها للعضوية في الاتحاد الأوروبي؛ فرغم أنّ حزب «العدالة والتنمية» تبنّى هذا الهدف، على عكس ما فعله أربكان الذي وصف الاتحاد بأنه «خرقة بالية» وبأنه «نادٍ مسيحي»، إلا أنّ المواطن التركي شعر بأنّ وجوده وحسن عيشه لا يتوقّفان على الدخول إلى النادي الأوروبي.
وفي هذا السياق، لم يكن عام 2007 نموذجيّاً لتركيا؛ فوصول نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسية، قلّل جدّياً من آمال تسريع المفاوضات مع أنقرة حول الفصول الـ35 للعضوية، والتي افتتحت المحادثات حولها منذ أواخر عام 2004، في مدّة زمنيّة غير محدّدة. ذلك أن ساركوزي بقي متمسّكاً بما «تعلّمته في المدرسة من أنّ تركيا دولة آسيويّة أقصى ما يمكن أن نصل معها هو علاقات مميّزة وشراكة ممتازة، لا عضوية كاملة في الاتحاد».
وبعد قرار الاتحاد العام الماضي وقف محادثات العضوية مع تركيا بشأن ثمانية من بين 35 بنداً للتفاوض بسبب رفض أنقرة فتح موانئها أمام السفن القبرصيّة، فقد بدأت المفاوضات بشأن أربعة بنود فقط في نهاية 2007. كما وجّهت المفوّضية الأوروبية انتقادات حادّة لفشل تركيا في تنفيذ الإصلاحات والاقتراب من معايير كوبنهاغن.
ولكن مع تزايد العداء داخل أوروبا لعضوية تركيا في الاتحاد، يبدو أن حكومة أنقرة باتت تتعرّض لضغوط أقلّ من جانب مواطنيها للانصياع للمطالب الأوروبية. ووفقاً لدراسة أجرتها مؤسّسة «صندوق مارشال الألماني» الأميركيّة، فإنّ الحماس التركي حيال الاتحاد هبط من 52 درجة عام 2004 إلى 45 درجة عام 2006 إلى 26 درجة فقط خلال عام 2007.
لهذه الأسباب وغيرها، من غير المرجَّح أن يكون عام 2008 أوروبيّاً بالنسبة إلى تركيا، بل قد يشهد المزيد من تمتين العلاقات مع المحيط العربي والشرق أوسطي والآسيوي عموماً.
يبقى أن يتمّ رصد تأثيرات سياسة أنقرة إزاء محيطها المتصالحة معه حديثاً، على علاقاتها مع تل أبيب وواشنطن؛ فتركيا من بين الدول التي تدرك جيّداً أنّ دوراً مركزيّاً ينتظرها في حلّ أزمات المنطقة من العراق إلى إيران ولبنان وفلسطين. وهنا لا بدّ أن طريقاً معبّداً بالألغام ينتظر الخطوات التركيّة. فنسج علاقات متوازنة مع الفلسطينيين والإسرائيليين والسوريين، كما مع طهران وواشنطن وموسكو، سيعرّض التكتيك التركي إلى تفضيل محاور على أخرى، وخصوصاً أنّ الأزمات التي تورّط تركيا نفسها فيها حسّاسة الى حدّ أنّها إمّا ملفّات حربيّة حالياً، أو ملفّات تنتظر الرصاصة الأولى لكي تصبح حرباً إقليمية «عالمية» تدرك أنقرة أنها ستكون أول الخاسرين من نشوبها.