strong>بول الأشقر
كل شيء كان يدلّ على أنه سيكون «عام تشافيز»، وهو كذلك في كل الأحوال. في الفصل الأول، ركّب جولة موازية لزيارة الرئيس الأميركي جورج بوش وترأس منظمة «أوبك» قبل أن يخطب في زعمائها. تجذّر في دور الوريث لفيديل كاسترو، لذلك يبقى فشله في الاستفتاء لإقرار دستور «ثوري» في فنزويلا بحاجة لتفسير مقنع

من الأكيد أن الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز استسهل وغاب، وهو ما جعل المعارضة، التي أعطتها الحركة الطالبية نفساً جديداً، تزداد حجماً بنصف مليون صوت. وفي المقابل، فضّل ثلاثة ملايين من ناخبي تشافيز قبل سنة، المقاطعة هذه المرة. السبب على الأرجح أن تشافيز مارس الهروب إلى الأمام ولجأ إلى التفرد وبالغ في شراء المعارك بسبب أو بغير سبب. لكن تبقى المحصلة أنه مني بهزيمته الأولى في الداخل.
قد يلتف تشافيز على ما سمّاه «الصفعة» التي تلقاها من الرئيس الكولومبي ألفارو أوريبي، الذي سحب منه الوساطة في ملف رهائن «الفارك» قبل أن يعود للقبول بمبادرته التي أثمرت إطلاق ثلاثة منهم، وعلى طلب الملك الإسباني خوان كارلوس منه أن «يخرس». إلا أنّ تحديه الحقيقي يبقى في الداخل. فقد وضعت صناديق الاستفتاء حداً لولايته بعد ست سنوات، وقد يكون الإنذار، إذا استخلص منه العبر، مفيداً.
على الأقل تحاشى تشافيز والرئيس البرازيلي لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا الفخ الذي نصبته لهما الولايات المتحدة مقصية الأول ومتقربة من الثاني للإيقاع بينهما.
أسهم الوضع الاقتصادي، الذي استمر يشير إلى النمو، في إعطاء دول مثل البرازيل وفنزويلا والأرجنتين موارد مالية سمحت لها ولغيرها بهامش من المناورة لتخفيف ضغط الدين ولإدراك تراجع في نسب البطالة، ولمكافحة الفقر بوتيرة أسرع لدى الحكومات اليسارية ولدمج البنى التحتية، مثل الطريق الذي أقر الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، والذي سيربط المحيطين الأطلسي بالهادئ، من البرازيل إلى التشيلي، والذي سيطور «على طريقه» شبكة النقل في بوليفيا.
وفي مجالات توليد الطاقة على أنواعها، المشاريع المشتركة لا تحصى. وأخيراً تم إطلاق «بانكو ديل سور» ـــــ بنك الجنوب ـــــ الذي ينوي أداء دور المؤسسات المالية من دون إملاءاتها. وبالرغم من الصعوبات والخلافات وتضارب المصالح بين الكبار والصغار في داخلها، تبقى مجموعة «ميركوسور» النواة للبنيان الإقليمي.

دساتير تجمع أو تفصل

في جنوب أميركا اللاتينية، تعيش الأنظمة نوعاً من الاشتراكية الديموقراطية المتصالحة، حيث شعبية لولا البرازيلي و«عائلة» كيرشنير الأرجنتينية أكبر من شعبية زملائهما تاباريه فاسكيز في الأوروغواي وميشيل باشليه في الشيلي. أما في شمال أميركا الجنوبية، فتواجَه هذه الموجة من الجمعيات التأسيسية التي تريد أن تعيد تأسيس الدول: بدأت في فنزويلا قبل سنوات ومرت في بوليفيا ووصلت إلى الإكوادور. المثلان البوليفي والإكوادوري يشيران إلى اتجاهين مختلفين. في الأول حاول إيفو موراليس استعادة شيء من حقوق الهنود الذين يمثلون أكثرية السكان وإخراجهم من التهميش الذي عوقبوا به خلال قرون. في الثاني، غاية رافائيل كوريا كانت فك الحجز الذي وضعته الأحزاب التقليدية على اللعبة السياسية منذ عقود. وبحثاً عن هذه الورقة التي تنظم العلاقات بين أفراد الوطن الواحد، نجح رئيس الإكوادور، الذي لم يكن له في بداية السنة ولو نائباً واحداً إلى جانبه، في إنهاء السنة، ووضع على السكّة جمعية تأسيسية له فيها أكثرية مريحة، وقد تنتج قبل أواسط السنة المقبلة دستورها الجديد الذي سيخضع للاستفتاء.
أما في بوليفيا، وبالرغم من الأكثرية التي يتمتع بها موراليس في الجمعية التأسيسية، فقد فشل الدستور الجديد، الذي سيخضع أيضاً إلى استفتاء في الأشهر المقبلة، في تقليص الهوة، بل أسهم في تجذيرها وأعطائها معالم أكثر مناطقية وعرقية.
في بحر الكاريب، حيث يمارس تشافيز ما يعنيه حقيقة بتوفير النفط لدول فقيرة بأسعار مدعمة وبتسهيلات مالية، يبدو أن «الجزيرة العاصية» تتحضّر لانتقال سلطة إلى طقم جديد قد يديره فيديل كاسترو من دون العودة إلى إشغال مراكز رسمية. هايتي ستبقى محاطة لسنوات طويلة بظروف عيش لا إنسانية؛ على الأقل هذه السنة لم تتراجع هذه الظروف، إلا عندما يضاعف التكاثر الحراري وتيرة الفيضانات وعنفها.
في أميركا الوسطى القائمة على حفر جيولوجية، على هذا الخط الرفيع الذي يصل أميركا الشمالية بأميركا الجنوبية ويفصل المحيط الأطلسي عن الهادئ، تتراجع ببطء التشكيلات السياسية التقليدية وتنفتح ثغر في الجدران المحافظة: غواتيمالا، وهي البلد الآخر مع بوليفيا في كل أميركا اللاتينية حيث الهنود أكثرية سكانية، كرست هذه السنة وصول ألفارو كولوم إلى سدة الرئاسة.
وفي المجال الحيوي الأميركي على أطراف أميركا اللاتينية، وافقت كوستاريكا بالاستفتاء على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، فيما مضت سنة ونيف على رئاسة المكسيكي فيليبي كالديرون المشكَّكَ بصحة فوزه بالانتخابات والخاضع لأولويات الولايات المتحدة في مراقبة الحدود ومكافحة المخدرات، كأن بلداً بحجم المكسيك وبحضارته محكوم عليه أن يبقى بين هلالي الجيرة وأن يتحول إلى مجرد حزام أمني.
وذكر المكسيك هذه السنة كرسه تحول كارلوس سليم، اللبناني الأصل، إلى أغنى رجل في العالم.

العنف يعالج بالأمن أم بالاجتماع؟

باستثناء كولومبيا، سكتت المدافع والأسلحة في الصراعات السياسية في أميركا اللاتينية مع أن العنف السياسي لم ينتف في أميركا الوسطى تحديداً، حيث عصابات «المارا» ـــــ المؤلفة من مهاجرين مطرودين من الولايات المتحدة ومن شباب يائسين ـــــ ترعب الحياة العامة في أميركا الوسطى وتفرض نفسها بقوة على جدول السياسيين.
بهذا المعنى، يأتي تمحور الحملة الانتخابية في غواتيمالا بين أنصار القبضة الحديدية، ويمثلهم جنرال يعرض خبرته، وبين أنصار الاستثمار لردم الهوة الاجتماعية. إلا أن العنف السياسي الذي خرج من الباب، عاد وتسلل من جميع نوافذ الجسم المجتمعي: فلت من عقاله في فنزويلا، وفي البرازيل تدير العصابات أشغالها من السجون وتتنافس مع الدولة للسيطرة على الأحياء الفقيرة. في كولومبيا، عادت مافيات الميليشيات إلى نشاطها الميداني. وتشير التحقيقات إلى أن الطبقة السياسية، وربما الرئاسة، منخورة من هؤلاء فيما كارتيلات المخدرات متغلغلة من كل حدب وصوب. أما الباراغواي، فقد تحمل السنة المقبلة خبراً ساراً من هذا البلد الريفي بامتياز إذا قرر الفلاحون الفقراء، كما تدل استطلاعات الرأي، إيصال المطران لوغو، الذي خلع ثوبه الديني، إلى سدة الرئاسة.