موسكو ــ حبيب فوعاني
شهدت العلاقة السعودية الروسية موجة من التقلّبات
والمواجهات، وصلت إلى حدود القطيعة، قبل أن تعود إلى زخمها أخيراً مع استشعار موسكو بخطورة المشروع الأميركي في المنطقة، ما دفع بالرئيس فلاديمير بوتين إلى محاولة توطيد العلاقة الروسية العربية، وتقرير زيارة تاريخية يزمع القيام بها إلى السعودية في 11 شباط الجاري


في العلاقات العربية الروسية تمتزج السياسة بالثقافة، والاجتماعي بالجغرافيا، ويختلط التاريخ بالخرافات. غير أن شيئاً مؤكداً فيها هو أن هذه العلاقات لم تبدأ بانتصار الثورة البولشفية في عام 1917، بل قبل ذلك بقرون عديدة.
فقد أرسلت دار الخلافة العباسية في بغداد عام 921 أول سفارة عربية إلى حوض الفولغا، حيث وصف الأديب والمؤرخ العربي الشهير أحمد بن فضلان الروس بأنهم «حُمْرٌ، جمّل الله خلقهم، لهم نظافة في لباسهم ويكرمون أضيافهم، ويؤوون الغريب، وينصرون المظلوم، ويحسنون إلى رقيقهم، ويتأنّقون في ثيابهم لأنهم يتعاطون التجارة، ولهم رجولة وبسالة إذا نزلوا ساحة الحرب، وإذا استنفروا خرجوا جميعاً ولم يتفرّقوا، وكانوا يداً واحدة على عدوّهم حتى يظفروا».
وجاءت رسل الإسلام إلى الأمير الروسي فلاديمير في القرن العاشر، والذي كان يريد إنهاء الوثنية في روسيا ويحتار بين اعتناق المسيحية أو الإسلام. وتقول الرواية، التي يحب الكتّاب تردادها، إن الأمير الروسي لمّا علم من الرسل المسلمين أن الإسلام يحرّم الخمر، الذي لا غنى عنه للروس في بلاد الصقيع، اختار الأرثوذكسية. لكن المؤرخين الجادين يتشككون في ذلك. ويتهم الكاتب الروسي، الحائز على جائزة نوبل، ألكسندر سولجنتسين في كتابه «مئتا عام معاً» اليهود باحتكار بيع الفودكا في القرن التاسع عشر وبتعليم الروس على الإدمان على الخمر، لأن السلطات القيصرية منعتهم من ممارسة أي تجارة أخرى.
وذكرت دائرة المعارف الروسية للأطفال أنه «لم تكن هناك عملة أقوى من الدرهم في نهاية الألفية الأولى، حيث كان يستخدمه بسرور تجار جميع الدول، من الهند إلى إسبانيا، ومن أراضي نوفغورود [الروسية] إلى مصر». في حين كان هاجس الوصول إلى المياه الدافئة منذ القيصر بطرس الأول في القرن السابع عشر وراء الحملات العسكرية الروسية في الشرقين الأوسط والأدنى، وكذلك رحلات المغامرين والبعثات الدبلوماسية إلى هذه المنطقة.
وبالنسبة للعلاقات السعودية ــ الروسية، فقد بدأت بافتتاح قنصلية في جدة عام 1924، وكان الاتحاد السوفياتي الدولة غير العربية الأولى التي تعلن اعترافها في عام 1926 بأول كيان سعودي سيادي موحد (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها)، وسلم القنصل السوفياتي آنذاك كريم حكيموف إلى الملك عبد العزيز آل سعود مذكّرة الاعتراف بالسلطة الجديدة، الأمر، الذي سمح للنظام السعودي الفتي بالحصول على هامش للمناورة من حين إلى آخر أمام الأمبراطورية البريطانية الجبّارة.
وفي عام 1930 تم تحويل القنصلية السوفياتية في جدة إلى سفارة. وفي عام 1932 زار نائب الملك الأمير فيصل بن عبد العزيز الاتحاد السوفياتي، حيث طلب تقديم مساعدات اقتصادية إلى المملكة، لكن الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، المنهمك بالقضاء على الجوع المستشري في أرجاء الدولة السوفياتية الوليدة وتحويلها إلى دولة صناعية جبارة، لم يلب هذا الطلب، بل دفعه زهده بتنمية العلاقات مع هذه الدولة الصحراوية الفقيرة إلى استدعاء السفير السوفياتي عام 1938، ولم يتم تعيين بديل عنه حتى عام 1990.
وفي هذه المرحلة استعرت الخلافات الإيديولوجية بين البلدين. ومع الوقت تحوّلت الرياض إلى خصم شرس للشيوعية، وكانت تحاول التأثير فكرياً على جمهوريات الاتحاد السوفياتي المسلمة. وتحولت هذه الخصومة إلى مواجهة شبه مباشرة في الثمانينيات من القرن الماضي في أفغانستان. وقامت المملكة بتمويل المقاومة الأفغانية بمبالغ وصلت إلى 40 مليار دولار.
واستمرت النزعة العربية للتأثير على الجمهوريات السوفياتية المسلمة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991عبر إرسال الكتب الدينيةوكتب رئيس التحرير السابق لمجلة «المعرفة» السعودية والمختص بالشؤون الروسية، زياد الدريس، يقول «إذا ما قارنّا الجهدين العربي والإسرائيلي لكسب الأرض الروسية كحليف سياسي واقتصادي وثقافي، نجد السفارة الإسرائيلية في موسكو تضم طاقماً متكاملاً من الدبلوماسيين والمستشارين والخبراء والقائمين على ملحقاتها المتنوعة، بينما تفتقر معظم السفارات العربية في موسكو إلى ملحق تجاري أو إعلامي أو ثقافي تعليمي، بل يفتقر بعضها إلى كل هذه الملحقات دفعة واحدة. وفي حين توجد على الأقل 9 مواقع يهودية على شبكة الإنترنت، تقدم باللغة الروسية عرضاً مزيفاً للحق اليهودي في فلسطين، والعلاقات اليهودية الروسية المتبادلة وسبل تطويرها ودعمها، فإنه لا يوجد موقع عربي واحد على الإنترنت الروسية تكلّم عن القضية الفلسطينية بالصورة الحقيقية، وعن العلاقات العربية الروسية تاريخيّاً وحضاريّاً».
وجرت المواجهة الثانية غير المباشرة بين النظامين خلال الحرب الروسية الشيشانية الأولى (1994-1996)، عندما بدأ تدفّق «العرب الأفغان» على الشيشان بقيادة السعوديين خطـّاب وأبي الوليد، وانطلق هناك نشاط «القاعدة» بتوجيهات من السعودي أسامة بن لادن، حيث أصبحت الأجهزة الأمنية الروسية تطلق وصف «الوهابي» على كل متطرّف إسلامي.
وقد سجّل بعض المحللين الروس أسماء عديد من كبار الشيوخ السعوديين، الذين أصدروا الفتاوى بضرورة الجهاد في الشيشان، وقدموا دعمهم الشرعي لمحاربة الروس على الأراضي الشيشانية، وهو ما شجع عدداً من الشباب السعودي، بحسب المستشرق الروسي المتخصص في شؤون «الإرهاب» ألكسندر إيغناتينكو، على التطوّع في صفوف المقاتلين الشيشان.
وكان كثير من المختصين في موسكو يرون في المملكة ودول الخليج أكبر مصدر للتبرعات المقدمة إلى المقاتلين الشيشان. وقال إيغناتينكو إن «المؤسسات الإسلامية الخيرية موّلت بنشاط الجهود الإرهابية والتخريبية في روسيا».
وشنّت وسائل الإعلام الروسية، التي كان يسيطر على معظمها آنذاك المليارديران اليهوديان فلاديمير غوسينسكي وبوريس بيريزوفسكي، حملة شعواء على المملكة، ووصل الأمر ببعض الصحافيين الروس في نهاية التسعينيات إلى اتهام السفارة السعودية في موسكو بأنها مركز لدعم المتطرفين الإسلاميين في روسيا. واضطرت السفارة من حين لآخر إلى إغلاق المسجد الصغير الملحق بها أمام المصلّين من الدبلوماسيين العرب في العاصمة الروسية.
من ناحية أخرى، كانت الرياض تعلن بالفعل عن تعاطفها مع «الإخوة في الإيمان» في الشيشان. وقد عبّر الملك فهد عن «حزنه لمعاناة المسلمين في الشيشان»، وأمر بإرسال طائرتين محملتين بمواد إغاثة فوراً في عام 1999.
ونظّم التلفزيون السعودي قبل أسبوع من ذلك حملة لجمع الأموال للشيشان، تمكّنت من تحصيل أكثر من 12 مليون دولار، تبرع الملك بخمسة ملايين منها. وكانت المملكة تتهم روسيا «بالتظاهر بالجهل بالمواثيق الدولية لشن حربها ضد الشيشانيين».
وفي 16 أيار 2001، اختطف الشيشانيون طائرة ركاب روسية من طراز «توبوليف ـ 154» أثناء توجهها من اسطنبول إلى موسكو. وانتهت عملية الاختطاف بقيام القوات الخاصة السعودية بعملية غير متوقعة قُتل على إثرها أحد الخاطفين وراكب تركي ومضيفة روسية. وطلبت النيابة العامة الروسية من السلطات السعودية رسمياً تسليمها الخاطفين، لكن حكام الرياض رفضوا ذلك، مشيرين إلى أنهم سيحاكمون الخاطفين وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، ما تسبب بأزمة جديدة بين البلدين.
وبعد عمليات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وجدت القيادة الروسية الظرف مناسباً لانتهاز الفرصة وللنيل من الحليف السعودي لواشنطن، وعوّلت على تغيير الإدارة الأميركية لموقفها من النزاع الشيشاني، ورفعت الصوت عالياً ضد «الإرهاب العالمي»، الذي وقعت ضحيته أميركا. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن خمسة عشر من بين خاطفي الطائرات الأميركية كانوا سعوديين. وكان بوتين من بين القادة الأوائل، الذين عبّروا للرئيس الأميركي جورج بوش عن تعاطفهم واستنكارهم لما حدث. وأرسل وزير خارجيته آنذاك إيغور إيفانوف إلى واشنطن في 19 أيلول 2001.
وأصبح المستشرقون الروس أنفسهم يتشككون بجدوى العلاقات مع العالم العربي، وتساءل نائب مدير معهد الاستشراق الروسي أناطولي يغورشين «ما هو الأهم بالنسبة لنا؟ الشرق الأوسط أم أميركا؟ بالطبع، أميركا».
لكن سرعان ما خيّمت خيبة الأمل على أحاديث كبار الموظفين الروس في أروقة الكرملين من مواقف الولايات المتحدة، التي لم تتغير من روسيا بعد 11 أيلول أيضاً.
وبالتوازي مع الوحشية التي تميزت بها الحرب الشيشانية (1999-2001)، والتي قادها بوتين كرئيس للحكومة، ونال شعبية بواسطتها وأوصلته إلى الرئاسة، بدأت حملة داخلية للدعاية للنموذج الإسلامي التتري المعتدل (الذي يشبه النموذج التركي)، بفضل سياسة رئيس تتارستان منتمير شايميف، في مقابل النموذج القوقازي، وجرى صرف مليارات الدولارات على إعادة بناء الشيشان. ولكن القيادة الروسية أدركت أنه من دون تفعيل العلاقات الروسية مع العالم الإسلامي، والتي وصلت إلى الحضيض في عهد الرئيس بوريس يلتسين، ومن دون تنشيط العلاقات الروسية السعودية بالذات، لا يمكن إنهاء النزاع الشيشاني. وأعلن الكرملين سياسة التقارب الروسي ــ الإسلامي، وبدأ بترميم الجسور المقطوعة مع المملكة.
وتوالت زيارات مسؤولي البلدين المتبادلة:
ففي الثامن عشر من نيسان عام 2002 قام وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بزيارة عمل إلى موسكو، تركزت مباحثاته فيها مع نظيره الروسي إيغور إيفانوف على الوضع في المنطقة وفي العراق وفلسطين وسبل تحقيق مبادرة بيروت السعودية بشأن الشرق الأوسط. والتقى سعود الفيصل الرئيس الروسي أيضاً.
وزار الفيصل موسكو مجدداً في الثامن من أيار عام 2003 للتحضير لزيارة ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله إلى روسيا، والتي تمّت في 3 أيلول 2003. وكتبت في حينه صحيفة «كوميرسانت» الروسية المطلعة أن الجانب السعودي عرض توظيف 200 مليار دولار في الاقتصاد الروسي. وبعد أشهر من ذلك، لبى الرئيس الشيشاني الموالي لموسكو أحمد قديروف دعوة رسمية من الأمير عبد الله، وقام بزيارة مفاجئة إلى الرياض في منتصف كانون الثاني 2004. وحققت زيارة قديروف أهدافاً عديدة، بينها: الاعتراف الرسمي السعودي بالرئيس الشيشاني، ورفع الغطاء الإسلامي عن المقاتلين الشيشانيين، وحرمانهم من تلقي أي نوع من الدعم المالي والمعنوي، وانحياز الرياض نهائياً إلى الفهم التتري للإسلام، لا القوقازي المتعصب، ما سهّل على روسيا الانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب في حزيران عام 2005.
في هذا الوقت، بدأت جهود رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية يفغيني بريماكوف الجبارة لإرساء تعاون اقتصادي جدي بين السعودية وروسيا، تؤتي ثمارها، بعد تأليف مجلس الأعمال الروسي ــ السعودي وعقد أولى جلساته في موسكو في عام 2003، حيث وقعت شركة «لوك أويل» النفطية الروسية في عام 2004 مع السلطات السعودية عقداً حول التنقيب عن الغاز في حقل «أ» في الربع الخالي ومدة سريان مفعوله 40 سنة.
ولتحقيق المشروع، أُنشئت مؤسسة «لوك سار» الروسية ــ السعودية المشتركة، التي يعود 80 في المئة من أسهمها إلى «لوك أويل». وتنوي الشركة الروسية توظيف ثلاثة مليارات دولار في استخراج الغاز.
وخفف الإعلام الرسمي من هجمته على المملكة، وفي 9 أيلول 2004، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لصحيفة «فريميا نوفوستي» أن بلاده ترفض «محاولة إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والعرب». وذكر أن «روسيا تؤكد باستمرار أنْ لا قومية للإرهابيين». وأشاد بدور السعودية في مكافحة الإرهاب.
وزار وزير الخارجية الحالي سيرغي لافروف الرياض في أيار 2006 للتحضير لزيارة فلاديمير بوتين للرياض، حيث أعلن لافروف أن «مواقف الاتحاد الروسي والولايات المتحدة متطابقة من الناحية الاستراتيجية تجاه غالبية المشكلات، غير أن هناك اختلافات تكتيكية كثيرة، ويرى العرب أن الموقف الروسي هو الأقرب إليهم».
ولتهيئة الأجواء الملائمة للزيارة ولتبديد تهمة التطرف نهائياً، أعلن رئيس هيئة جائزة الملك فيصل العالمية وأمير منطقة عسير السعودية، الأمير خالد الفيصل، في 13 كانون الثاني 2007، أن اللجنة قررت منح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام إلى رئيس تتارستان منتيمير شايمييف، كما ذكرت صحيفة «عكاظ» السعودية، التي اعتبرت «تتارستان مثالاً للتعايش الاجتماعي السلمي ورمزاً للتسامح».
وشدد المكتب الصحافي لمصنع «أورال فاغون زافود»، الذي ينتج دبابات «تي إس ــ90»، والتي يتوقع المراقبون شراء السعودية 150 منها، على أن اهتمام الدول العربية بالدبابات الروسية كبير، لكن ممثليه رفضوا التعليق على آفاق توقيع عقد لشرائها مع السعودية.
وقد تطرّق بوتين، في مؤتمره الصحافي السنوي في 1 شباط الجاري في موسكو، إلى زيارته المتوقعة إلى السعودية وقطر والأردن، فأشار إلى أن الاهتمام الروسي بمنطقة الشرق الأوسط كان دائماً كبيرا،ً وعلاقات روسيا معها تاريخية.
وحول الوجود السياسي العسكري الأميركي في المنطقة، قال بوتين «إننا لا ننوي الدخول في تنافس مع هذه الدولة أو تلك في هذه أو تلك من المناطق».