بغداد ــ الأخبار
تمثّل مدينة كركوك نموذجاً مصغّراً للعراق، بطوائفه وقومياته، لذلك يُنظر الى السجال الذي يدور في شأنها حالياً على أنه اختبار مسبّق لما قد يحدث بشكل أشمل في محافظات أخرى قد تطالب في المستقبل بالاستقلال الإداري أو النفطي أو الأمني
أثار القرار الذي اتخذته أخيراً إحدى اللجان الحكومية الخاصة بـ«تطبيع الأوضاع في كركوك»، والذي يقضي بإعادة العرب الذين سكنوا المدينة قبل زهاء 30 عاماً أو أكثر إلى المناطق التي كانوا فيها أساساً، ردود فعل عنيفة لدى الأوساط غير الكردية في المحافظة، كون معظم المشمولين بالترحيل هم من الذين وُلدوا ونشأوا في كركوك، ولا ذنب لهم إن كان النظام السابق قد استقدم آباءهم أو أجبرهم على القدوم الى المدينة، ناهيك عن كون المحافظة جزءاً من الأراضي العراقية.
وتقضي المادة 140 من الدستور العراقي بـ «تطبيع الأوضاع وإجراء إحصاء سكاني واستفتاء في كركوك وأراض أخرى متنازع عليها، لتحديد ما يريده سكانها، وذلك قبل 31 كانون الأول» من العام الجاري 2007، في ظل تجاذب بين الأكراد الذين يطالبون بإلحاق كركوك بإقليم كردستان، وبين العرب والتركمان الذين يخشون حصول تغيير ديموغرافي كبير في المدينة الغنية بالنفط لصالح الأكراد.
وبحسب المتابعين لهذا الملف، فإن هناك شقّاً آخر للمسألة، وهو حق الذين رحّلوا من كركوك بالعودة الى ديارهم، وهو حق مشروع لم تعترض عليه أي جهة سياسية أو دينية، لكن المشكلة بقيت في إعادة أراضيهم وممتلكاتهم التي صودرت، سواءٌ جرى تعويضهم عنها أم لم يجرِ، وهذه المشكلة تمتد تداعياتها الى بغداد والبصرة وكل المدن العراقية.
غير أن القضية كلها ابتعدت عن هذه الأطر، واتخذت منحىً سياسياً، وخاصة بعد تعديل فقرات في قانون إدارة الدولة، الذي أُقرّ في عهد الحاكم الأميركي السابق بول بريمر، بنصه على نظام فيدرالي، لا تزيد الوحدة الإدارية (الإقليم) فيه على ثلاث محافظات، وأن تكون كل من بغداد وكركوك وحدات إدارية منفردة تتبع للمركز الفيدرالي، ولا ترتبط بأي إقليم.
كما تتيح فقرات في الدستور الجديد اتخاذ إجراءات لـ«تطبيع الأوضاع في كركوك ومناطق أخرى». إلّا أن تفعيل هذه الفقرات يُفترض ألّا يتم قبل إجراء التعديلات الدستورية، التي أُدرجت كشرط للموافقة على الدستور في الاستفتاء العام الذي أُجري لهذا الغرض، أي إن الدستور لم يقرّ بشكله الحالي.
ومع ذلك، قام رئيس الوزراء نوري المالكي، بالاتفاق مع الطرف الكردي، بتغيير «لجنة كركوك» التي شُكلت في عهد حكومة إياد علاوي، حيث اتخذت بتشكيلتها الجديدة أول قراراتها بإعادة العرب من غير سكان كركوك الأصليين الى المناطق التي قدموا منها، من دون أن يشمل القرار الأكراد والتركمان والفئات الأخرى.
وفي هذا الإطار، يرى نائب رئيس برلمان إقليم كردستان، كمال كركوكلي، أن «الخطوة، التي أقدمت عليها اللجنة العليا لتطبيع الأوضاع في كركوك، مهمة على طريق تطبيق المادة 140 من الدستور»، موضحاً أن «أكثر من 70 ألف عربي مرحّل الى كركوك يرغبون في العودة الى مناطقهم الأصلية، شرط منحهم تعويضات مادية». وأوضح أن «العائلات العربية ستُمنح مبلغ 20 مليون دينار، إضافة الى قطعة أرض سكنية، الى جانب نقل الموظفين منهم من كركوك الى مناطق سكنهم الجديدة».
وعمّا سمّاه «مساعي تركيا لإجهاض الحل العراقي في شأن كركوك»، قال كركوكلي إنه «ليس مقبولاً من تركيا ولا أي دولة أخرى التدخل في القضايا العراقية».
وفي السياق نفسه، رأى النائب عن الائتلاف العراقي الموحّد عباس البياتي، في حديث إلى «الأخبار»، أن توقيت القرار «غير مناسب»، مضيفاً إن «الدستور يعطي العراقيين حق السكن في أي محافظة، وإن مسالة تطبيع الأوضاع تعني تعويض المتضررين، ونحن مع هذا الأمر». لكنه شدد على أن القرار في الوقت الحالي «يؤدي الى تعقيد المسألة بدلاً من حلها».
بدوره، قال رئيس كتلة الفضيلة الشيعية في مجلس النواب حسن الشمري إن قرار اللجنة العليا لتنفيذ المادة 140 من الدستور «لا يخرج عن كونه معالجة الخطأ بالخطأ»، معتبراً أن «الحل الصحيح بنظرنا هو أن يتم تفصيل الموضوع؛ فمن اعتدى على الأملاك الخاصة في كركوك تُستعاد منه، أما من لم يتجاوز الممتلكات الخاصة، فلا يُشمل بهذا القرار».
في هذا الوقت، بدأت الرئاسات الثلاث لإقليم كردستان ببحث التهديدات التركية للأكراد في مدينة كركوك، على أثر تصريحات المسؤولين الأتراك.
كما دعا النائب عن الجبهة العراقية للحوار الوطني، محمد الدايني، في حديث إلى «الأخبار»، مجلس النواب الى «الوقوف بحزم أمام كل المخططات الرامية الى تقسيم العراق»، معتبراً أن قرار اللجنة بترحيل العرب من منطقة كركوك «ما هو إلّا أزمة جديدة تُضاف الى الأزمات التي يعانيها الشعب العراقي، إذ ستعمل هذه الأزمة على خلق فتنة على الصعيد القومي، ونحن في أشد الحاجة الى الوحدة والتكاتف بين العراقيين».
كذلك، قال المتحدث باسم جبهة التوافق السنية، سليم عبد الله، إن ترحيل العرب من كركوك طأمر غير مقبول به، وغير مناسب، وسيخلق أزمة خطيرة ذات طابع قومي نحن في غنى عنها».
وأضاف عبد الله إن «لجنة التطبيع، التي تُدعى لجنة 140، هي في الأساس مثار خلاف دستوري، لذلك لا بد من انتهاء البحث في شأن هذه اللجنة، عن طريق إحداث التعديل على الدستور، وبعدئذ تُتخذ الإجراءات، ومن ثم تطبّق القرارات». وأوضح أن «قضية المناطق المتنازع عليها، قضية مبهمة لدى الجميع، فهل هذه المناطق ذات غالبية كردية أم عربية أم مناطق حدودية، ومن هي الجهات التي تحدد المناطق المتنازع عليها، ومن الذي يفصل في هذه القضايا؟».
أما النائب عن القائمة العراقية، الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي حميد مجيد موسى، فأعلن تأييده للقرار في شأن كركوك، مبرراً ذلك بأن «الدستور واضح في توجهاته وتحديده للجدول الزمني لتطبيق هذه المادة، إذ يُفترض أن تتم نهاية العام الجاري». وأشار إلى أن «الإجراءات الأخيرة في المحافظة لم تأت بشكل مفاجئ، بل إن اتفاقاً جرى بين الأهالي والحكومة، ولن يكون هناك أي ترحيل قسري للعائلات المشمولة بالقرار».
ورأى موسى أن «الوافدين إلى محافظة كركوك، ضمن سياسة التعريب، سيعودون معززين مكرمين، وستوفر لهم الحكومة كلّ المستلزمات، مع تعويضات مادية»، لكنه استطرد أن «من لا يرغب في الرحيل، فإنه غير مجبر على ذلك، لكن عليه أن يتخلى عما حصل عليه من أرض أو غيرها بصورة غير شرعية، وسيعيش في المحافظة كأي مواطن آخر».
لكن القاضي وائل عبد اللطيف، عضو البرلمان العراقي عن القائمة العراقية أيضاً، وصف القرار بأنه «متعجّل ومخالف للدستور وللقانون، لكون المنطقة ساخنة، وهي تمثل كل مشاكل العراق».
ورأى عبد اللطيف أن الهدف من القرار الأخير في شأن كركوك «هو إخلاؤها من العرب»، مشيراً الى أن «القرار لصالح الأكراد فقط، وهو هدف منافٍ ليس لمصالح العرب فقط، بل للتركمان والأشوريين والكلدان».
وفي الجانب التركماني، توقّع حزب «تركمن ايلي» أن يستغرق الجدل في شأن تحديد هوية محافظة كركوك «أكثر من الفترة التي حددها الدستور العراقي». وقال الحزب، في بيان، إن «لجنة تطبيع الأوضاع، التي ألّفتها حكومة الدكتور المالكي في الفترة الأخيرة، قد لا تكون قادرة في أحسن الأحوال على إيجاد حل توافقي يُرضي جميع الأطراف المتنازعين في كركوك، ناهيك عن الأطراف الإقليميين والدوليين». ودعا الأمم المتحدة الى «إثبات مصداقية دورها في مثل هذا النزاع، الذي اختلّت فيه معايير المواطنة وحقوق القوميات وتقرير مصير الشعوب، نتيجة سياسة فرض الأمر الواقع، التي اتُّبعت إزاء هذه المحافظة منذ عقود، وحتى يومنا هذا».
وطالب البيان مبعوث الأمم المتحدة بـ«المبادرة الى التوسط بطرح مشروع يمكن التفاوض عليه، لأجل التوصل الى حل يرضي الاهتمامات الأساسية لجميع الأطراف المحلية والإقليمية»، موضحاً أنه «يمكن أن يعتمد هذا المشروع على: التنسيق مع الحكومة العراقية لدعوة مجلس الأمن الدولي إلى إرسال مبعوث خاص الى كركوك تكون مهمته تسهيل التوصل الى حل بالتفاوض، وتوسيع المفاوضات في شأن الوضع القانوني لمحافظة كركوك ليشمل جميع العراقيين بمختلف طوائفهم وقومياتهم، بغية التوصل الى قرار اكثر شمولية وشفافية في شأن مستقبل المدينة».
وفي السياق، دعا الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق الى حل يقضي بأن تكون كركوك «إقليماً بحد ذاته، وفيدرالية خاصة لنفسها، من دون إلحاقها بأي إقليم»، مشيراً الى أن «الاقتراح الذي تقدم به رئيس الجمهورية جلال الطالباني، والقاضي بإدارة المدينة من جانب المكوّنات القومية المتعايشة فيها بنسبة 32 في المئة للتركمان والأكراد والعرب وأربعة في المئة للكلدو ـــ آشوريين مع تعيين رئيس للمجلس البلدي وللمحافظة مداورة بين القوميات، هو الحل الأمثل لمشكلة كركوك».
وفي ما يتعلق بتنفيذ بنود المادة 140 من الدستور، رأى الاتحاد أن «الوقت غير مهيأ حالياً، فتنفيذ هذه الأمور بحاجة الى فترة زمنية طويلة، ولا يمكن أن تتم قبل استقرار الوضع، واستتباب الأمن بشكل كامل في المدينة».
من جانبها، حذرت الجبهة التركمانية العراقية من «حرب أهلية تشعل المنطقة، في حال إصرار الأكراد على إجراء استفتاء لتقرير مصير المدينة، ومحاولة إلحاقها بإقليم كردستان».
وشدد مسؤول العلاقات الخارجية في قيادة الجبهة التركمانية عاصف سرت توركمان على ضرورة «عدم التسرع في تطبيق المادة 140، وإطلاق الخطب النارية، التي لا تخدم مصلحة الشعب العراقي»، مشيراً الى أن مرحلة إجراء الاستفتاء في شأن تقرير مصير كركوك في شهر تشرين الثاني المقبل «ستكون المرحلة الحاسمة في تاريخ العراق السياسي، وذلك للمعرفة المسبّقة بنتائج الاستفتاء، والأخطار التي ستنجم عنه».
وقال توركمان إن «صبر التركمان قد نفد، نتيجة حجم الأجحاف الذي يتعرضون له»، موضحاً أن «الإرهاب وعمليات التفجير في المناطق والأحياء السكنية التركمانية في كركوك هي من جملة العمليات والخطط التي ترمي الى تخويف التركمان، وإجبارهم على ترك محافظتهم».
وفي شأن تصريحات القادة الأتراك بالتدخل في قضية كركوك، أشار توركمان الى أن هذه التصريحات «ليست جزءاً من الحملة الإعلامية، بل هي صائبة وناتجة من ترقب تركيا لوضع التركمان في العراق»، مذكراً بأن أنقرة «هي التي رفضت في الأول من آذار عام 2003 استخدام أراضيها لضرب الشعب العراقي، بحجة خلاصهم من النظام السابق، وتحت اسم الديموقراطية»، في إشارة الى الموقف التركي من الغزو الأميركي للعراق.
واتهم المسؤول التركماني الحكومة العراقية بـ«الوقوف موقف المتفرج إزاء قضية كركوك»، معتبراً أن «تقرير مصير مدينة داخل دولة، يجب أن يقرره الشعب، وبمعنى أخر فإن مصير مدينة كركوك يجب أن يحدده جميع العراقيين، بمشاركة المحافظات الثماني عشرة».
بدوره، رفض مجلس العشائر العربية في كركوك القرار الذي أصدرته لجنة تطبيق المادة 140. وفي مؤتمر عُقد أخيراً في المدينة، لوح المجلس باستخدام «القوة» لمنع تطبيق القرار.
من جانبه، طالب النائب عن جبهة التوافق السنية عمر الجبوري الحكومة العراقية ومجلس النواب والقوى السياسية بـ«التريث في تنفيذ أحكام المادة 140 من الدستور، إلى حين انتهاء عمل اللجنة الخاصة بالتعديلات الدستورية»، داعياً الى «معالجة وضع الوافدين الأكراد، الذين زُجّوا في كركوك بعد عام 2003، والذين يقدّر عددهم بأكثر من 600 الف نسمة لا ينتمون أصلاً الى كركوك، فضلاً عن تأليف لجنة قانونية محايدة لتعريف المناطق المتنازع عليها، وآلية تشخيص هذه المناطق والأسس التي تعتمدها، وألّا يكون قرار تسمية المناطق من جانب إقليم كردستان فقط».
ورأى الجبوري أن «تنفيذ هذه المطالب المشروعة سيؤدي الى منع التدخل الخارجي في شأن كركوك، ويخلق فرصة طيبة للتعايش والتفاهم بين مكونات كركوك، ويعطي فرصة لنجاح حل سلمي يكون لصالح جميع الأطراف»، محذراً من أن قرار اللجنة المكلفة تطبيق المادة 140 «يهدد بتفاقم الوضع الأمني، وخلق صدام طائفي عرقي كبير».
وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قد قال أخيراً إن بلاده «لن تقف مكتوفة الأيدي» إذا سيطر الأكراد العراقيين على مدينة كركوك الغنية بالنفط. كما أعلن وزير الخارجية التركي عبد الله غول أن أنقرة «لا تستطيع تجاهل مصلحة الأقلية التركمانية في شمال العراق، التي تشكو من تعرضها للاضطهاد من جانب الأكراد».
وقد ردّ رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني على هذه التهديدات بالقول إن مدينة كركوك «كردستانية، والضجة التي تثيرها تركيا في شأنها هي مجرد دعاية انتخابية»، مشدداً على ضرورة تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي.
وأكد البرزاني، خلال مؤتمر داخلي كردي، على أن الأكراد «لا يخشون التهديدات التركية، وليست لها أي قيمة عندنا».
كذلك، رأى النائب عن التحالف الكردستاني عبد الله صالح في قرار اللجنة العليا لتطبيق المادة 140 «حلاً لمشكلة من المشاكل، الذي يمكن أن يسهم في حل المشاكل الأخرى الموجودة في العراق»، موضحاً أن هذا القرار «لن تكون له تأثيرات سلبية، اذا كانت النيات صادقة من جانب الجميع لحل المشاكل».
وتابع صالح إن اللجنة العليا لتطبيق المادة 140 «محددة بتوقيت وبمدة زمنية معينة، إذ من المفترض أن تنهي ما كُلفت به في نهاية العام الجاري».