باريس ــ بسّام الطيارة
الموقف الفرنسي لم يعد موحّداً، والصراع بين أقطاب السلطة بات واضحاً من التصريحات المتناقضة، التي تؤشّر إلى حسابات كثيرة تسبق الانتخابات الرئاسية، وتحدد هوية الشاغل المقبل لقصر الإليزيه

لم يعد الحديث عن «تعدد الأصوات» في الدبلوماسية الفرنسية مجرد «همس» في باريس تتناقله الأوساط الصحافية والمقربون من الملفات الساخنة. فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية، التي تتقاطع مع مواعيد حاسمة في بعض المسائل الموضوعة على نار حامية، تزداد نسبة الافتراق بين مواقف المسؤولين الفرنسيين، أكان ذلك عبر تصريحات رسمية أو عبر تسريبات مدروسة.
وأهم ملفين يظهر من خلالهما تباعد وجهات النظر «المفروض أن تكون موحدة» هما اللبناني والإيراني؛ ففي الملف اللبناني بات واضحاً أن الرئيس جاك شيراك لم يعد يأمل الوصول إلى أي من أهدافه التي وضعها نصب عينيه أو التوصّل إلى حل كما كان يتصوره. ولهذا السبب، باتت تصريحاته الرسمية تتوجه إلى الأطراف اللبنانيين كافة والمجتمع اللبناني ككل.
استهل شيراك جلسة مجلس الوزراء الأسبوعية في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط بكلمة، وصف خلالها هذا اليوم بأنه «حزين» وقدّم باسمه وباسم فرنسا والحكومة الفرنسية «التعازي إلى كل لبنان». كما وصف الحريري بأنه كان «يمثل نضال لبنان من أجل السيادة والاستقلال والديموقراطية». وأعاد تأكيد ضرورة أن تكون هذه «أهداف الشعب اللبناني». ودعا شيراك، في كلمته أمام الوزراء، إلى «وحدة القوى السياسية كافة وجميع الطوائف من أجل أن ينهض لبنان».
وفي المقابل، فقد بات واضحاً أن وزير خارجيته فيليب دوست بلازي، الذي يراهن على وصول نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة معتمداً على آخر استطلاعات الرأي، بات يتطلع إلى أبعد من الآفاق التي وضعتها الدبلوماسية الفرنسية للملف اللبناني بناءً على توجيهات شيراك؛ فطروحاته باتت أقرب إلى الطروحات الأميركية، التي لا ترى حلاً للملف اللبناني عبر الحوار والتنازلات المتبادلة في المدى المنظور، أي قبل خروج شيراك من الإليزيه بعد شهرين ونيف.
وفيما لاحظ المراقبون أن كلمة شيراك، عقب تفجيرات يوم الثلاثاء في لبنان، توجهت إلى «لبنان والشعب اللبناني» بشكل مباشر من دون المرور بعبارات كانت حاضرة في معظم تصريحاته السابقة وتدور حول «الحكومة والشرعية»، فإن بيان وزارة الخارجية توجه «إلى اللبنانيين» وطلب منهم التعاضد وعدم الوقوع في فخ الانقسام المنصوب لهم، ويؤكد أن السلطات الفرنسية تقف إلى جانب «القادة اللبنانيين» في عملهم «لمكافحة الإرهاب بكل أشكاله للمحافظة على الاستقرار ووحدة لبنان وسيادته».
ولوحظ أن وزارة الخارجية تجنّبت التشديد على «انتقائية التعامل مع الحكومة» وتوجّهت نحو «القادة اللبنانيين». ويرى بعض المراقبين أن كلمة شيراك في جلسة الحكومة جاءت لتتناسب مع «عملية الضبط الدبلوماسية» التي يقوم بها وزير الخارجية دوست بلازي، والتي تتأرجح بين «هبة باردة وهبة ساخنة»، كما وصفها دبلوماسي في باريس، والتي تعود إلى رغبته «في النظر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية»؛ فهو مرة يكون الأكثر صلابة في مهاجمة المعارضة اللبنانية ودعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ومرة أخرى يكون في «إطار التخاطب الدبلوماسي» فيتوجه إلى «الشعب اللبناني بكل أطيافه ومكوناته السياسية». وقد لاحظ المتابعون للملف اللبناني أن «ذبذبة وزير الخارجية غير منسقة مع قصر الإليزيه»، ويشيرون إلى أن أفضل برهان على ذلك ما حصل بعد مؤتمر «باريس ـــ٣» عندما «كان شيراك في جو تبريد الأمور»، وشدد خلال تصريحاته في حينه على أن «المساعدات موجهة إلى كل لبنان»، فما كان من دوست بلازي إلا أن ظهر على قناة إعلامية ليقول «إن حزب الله يملك أموالاً وهذا ما يوجب دعم حكومة السنيورة».
ويبدو التباين بين الوزير والرئيس بشكل أوضح في ما يتعلق بالملف الإيراني؛ فقد تعجّب المراقبون من غياب دوست بلازي عن خط التعليق على الجدل الذي قام بعد المقابلات الصحافية التي أعطاها شيراك بشأن «القنبلة الإيرانية». وفيما يشدد مقربون من شيراك على أنه «متأكد من أن أميركا تستعد لضرب إيران»، يشير دوست بلازي إلى العكس في مجالسه الخاصة. وقد اجتمع مع بعض الصحافيين يوم الثلاثاء حول طاولة فطور كانت مناسبة له للقول إن «فرنسا لا تملك أي سبب للتشكيك بالتطمينات التي تتلقاها من واشنطن إلى أنها لا تنوي توجيه أي ضربة عسكرية إلى إيران».
وأسرّ دوست بلازي بأن «السلطات الأميركية أكدت أكثر من مرة أن الخيار العسكري غير مطروح»، «وأن فرنسا واثقة بهذا الأمر»، إذ إنها «على قناعة من عدم وجود حل عسكري للمسألة النووية الإيرانية». وأعاد التذكير بأن فرنسا تطالب «بحل تفاوضي متعدد الأطراف» للاستفادة من كل السبل التي «يتيحها العمل الدبلوماسي».
والجدير ذكره أن هذه القناعة تأتي بعد ساعات من «نفي جورج بوش أي رغبة في ضرب إيران عسكرياً». وفي إشارة غير مباشرة إلى ما يسميه البعض «دبلوماسية شيراك الموازية»، أعاد دوست بلازي تثمين عمل الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا قائلاً «إنه المتحدث باسمنا ويقابله المحاورون المنتدبون من طهران»، نافياً ما تردد عن وجود نية إرسال مبعوث فرنسي إلى طهران كما سبق وتسرب عن الإليزيه. وقال «ليس هناك دبلوماسية موازية».
ولكن كانت لافتة طريقة خروج تصريحات الوزير «إلى نخبة من الصحافيين»، الذين اختيروا لأسباب لم يعلن عنها، وخلافاً للعادات المتبعة في وزارة الخارجية عند التعامل مع تصريحات الوزير، التي على أهميتها لم تتبنّها ولم تنشرها وزارة الخارجية على موقعها الصحافي.
وكان لافتا أيضاً أنه في اليوم نفسه خرجت تسريبات من مصادر «مطلعة جداً لا مجال للشك في جديتها واطِّلاعها» تقول عكس ما يصرح به دوست بلازي. وتقول هذه التسريبات إن مسؤولين أميركيين أبلغو كبار المسؤولين الفرنسيين أن «عملية العد العكسي لضرب إيران بدأت»، وأن الإدارة الأميركية مصممة «على إنهاء الخطر النووي الإيراني لحماية إسرائيل».
وقد لوحظ أن هذه التسريبات تتقاطع أيضاً مع تسريبات يربطها بعض المراقبين بـ«مصادر مقربة من وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط»، الذي صرح، بحسب بعض المطلعين، «بأن أميركا قررت ضرب إيران وأن موعد الضربة هو بين نهاية شهر آذار وبداية نيسان».
وإن تنفي المصادر الفرنسية أي «علم باستعدادت عسكرية أميركية» لضرب إيران، إلا أنها تعترف بأن «قناعة السلطات الفرنسية بأن واشنطن لن توجه ضربة عسكرية إلى إيران» تعود إلى«عدم وجود سبب لعدم تصديق المسؤولين الأميركيين».
وفي شأن التباين بين تصريحات دوست بلازي وبعض التسريبات الصادرة عن مقربين من مراكز القرار، تقول المصادر إنه يعود إلى اجتهادات البعض، استناداً لما يرونه ويسمعونه، وإلى وجود «آراء شخصية». ورداً على سؤال لـ«الأخبار» عما «إذا كان عند فرنسا تأكيدات بأن الولايات المتحدة لن تضرب إيران؟»، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية جان باتيست ماتيي «أكرر لكم ما قاله الوزير. ذلك أنه خلال محادثاتنا مع الأميركيين، فإنهم يقولون لنا إنهم لا يزالون ملتزمين حلاً سلمياً لهذه المسألة»، قبل أن يستطرد قائلاً «الوزير قال إنه ليس لديه أي سبب لعدم تصديق ما يقوله الأميركيون».
بين ما تردده أوساط وما تقوله أوساط أخرى، يبدو أن تعدد الأصوات في الدبلوماسية الفرنسية يحتّم انتظار الانتخابات الفرنسية الرئاسية لترتكز على خط ثابت. إلا أن بعض المراقبين يتخوفون من أن ينضم الملف الإيراني، مثل الملف اللبناني، إلى مجموعة الملفات التي ستتعامل فيها واشنطن خارج أي تعاون مع باريس، قبل دخول رئيس جديد إلى الإليزيه.