حسن شقراني
لم يكن «ترحيل» وزير الدفاع الجورجي السابق، المنقلب على السلطة، إيراكلي أوكروياشفيلي، من البلاد مساء أوّل من أمس، سوى حلقة جديدة، أكثر خطورة من سابقاتها، من مسلسل الصراع بين الرئيس ميكاييل ساكاشفيلي والمعارضة الموحّدة حديثاً، على كيفيّة إدارة البلاد.
صراع تفاقمت حدّته أمس وأخذ شكلاً مطابقاً لـ«ثورة الورود»، التي احتضنتها تبليسي قبل أربعة أعوام وأطاحت حكم إدوارد شيفاردنادزه بعد انتخابات برلمانيّة مريبة. لكنه جاء معاكساً من حيث المضمون؛ فقد اجتاح عشرات الآلاف من الجورجيّين، آتين من جميع مناطق البلاد، ساحة البرلمان من أجل البقاء فيها «وعدم الانسحاب حتّى تنفيذ مطالبنا»، حسبما أعرب النائب المعارض، جيا تورتلادس، لأنّ غضب الشعب ضد ساكاشفيلي، الأميركي النشأة الأكاديميّة والهوى السياسي، وإدارته «كبير للغاية».
مطالب «الجبهة المتّحدة»، التي شكّلتها أطياف المعارضة، أساسها إقامة الانتخابات التشريعيّة في موعدها الطبيعي، ربيع العام المقبل. وانتقال حركة الاحتجاج من المؤسّسات إلى الشارع، لتهدّد السلطة القائمة بثورة (ليست بمستبعدة) تطيح ما بقي من «ثورة الورود»، سببها رغبات ساكاشفيلي في البقاء في السلطة من خلال إرجاء اختيار المشرّعين إلى الخريف من العام المقبل، لكي تتزامن مع الاستحقاق الرئاسي.
وتلك المطالب ليست وليدة اللحظة، أو وهي ليست إعادة انبساط للنفوذ الروسي، بعدما كان العام الجاري قد شهد العديد من نقاط الخلاف بين موسكو وتبليسي، ليس أقلّها احتدام الجدل حول «مسرحيّة الصاروخ الجورجي» التي بانت أنّها بالفعل سيّئة الإخراج؛ فالمعارضة بالفعل موحّدة، وقد يُعزى ذلك إلى كيفيّة تعامل ساكاشفيلي مع منافسيه، وأبرزهم أوكروياشفيلي.
فقد كشف الأخير، الشهر الماضي، عن أنّ الرئيس منخرط في دوّامة فساد مالي وأخلاقي، من دون أن يستبعد وقوفه وراء محاولة لاغتياله، ما دفع بالسلطة إلى احتجازه ومن ثمّ الإفراج عنه بكفالة يقال إنّها زادت على المليون دولار. غير أنّ «الغطرسة» في الحكم وعدم الاحتكام إلى الديموقراطيّة، وهما المبدآن اللذان وصل على صهوتهما ساكاشفيلي بدعم غربي، تحوّلا إلى ممارسة للدولة الورديّة.
قبل «اختفاء» أوكروياشفيلي، وتحديداً في صباح أوّل من أمس، كان زعماء المعارضة الجورجيّة مجتمعين في لقاءين منفصلين. أحدهما مع الأمين العام لـ«منظّمة الأمن والتعاون الأوروبيّة»، مارك بيرين، والآخر مع مساعد وزيرة الخارجيّة الأميركيّة لشؤون أوروبا وأوراسيا، دانييل فرايد. ويبدو أنّ الغرب، من خلال لقاءات من هذا النوع، يسعى لاستشفاف ما تضمره المعارضة في ظلّ اتّضاح أنّ شعبيّة ساكاشفيلي، فارس الديموقراطيّة في الجمهوريّة السوفياتيّة السابقة، اضمحلّت تدريجاً في ظلّ بقاء نسبة الفقر مرتفعة والاتهامات باستغلال وسائل السلطة من أجل احتكارها.
بعد اللقاءين، خرج زعيم «الجبهة الموحّدة»، جورجي كايندرافا، مرتاحاً. إذ أعرب، خلال اجتماعه مع المتوجّسين من احتمال إطلاق تظاهرة الأمس شرارة التغيير، عن «التزامنا بالاندماج الأوروبي والمشاركة في حلف شمالي الأطلسي». مواقف لا يخفي دبلوماسيو أوروبا والولايات المتّحدة عن رغبتهما في سماعها.
وعمّا إذا كان قد استشفّ من فرايد، تغيّراً في الرؤية الأميركيّة ـــــ الأوروبيّة بعد انتهاء «وهم ساكاشفيلي» وأصبح الحديث الآن يدور حول خليفته، قال كايندرافا «لست أدري إن كانوا قد أوهموا (بقدرات وتوجّهات الرئيس)، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ الشعب الجورجي قد انخدع به» وبمدى قدرته على التغيير.
في هذا الوقت، كان ساكاشفيلي منتشياً بمدى تجاهله للاستحقاق الذي يواجهه ويهدّد موقعه وحتّى مستقبله السياسي. فيومه كان مخصّصاً لافتتاح سكّة حديد عند مطار تبليسي، ولمهاجمة «هستيريا الإعلام» الروسي في تضخيم الصراع في منطقة أبخازيا الانفصاليّة، وسعي موسكو إلى إعاقة الجهود الجورجيّة في التنمية.
سواء كان أوكروياشفيلي قد رحّل إلى فرنسا، كما يشير المقرّبون منه، أو ذهب إلى ألمانيا لتلقّي العلاج كما تزعم وزارة الداخليّة الجورجيّة، فالأكيد أنّ البساط الشعبي ينسحب من تحت أقدام ساكاشفيلي المتوهّم في دعم غربي خلص إلى أنّ ما آلت إليه ثورة الورود مجرّد «وهم».