باريس ــ بسّام الطيارة
ماذا يحصل عندما ترتفع أسعار النفط على النمط الهستيري الذي حصل؟ ترتفع أسعار كل السلع المصنّعة وتبدأ تكلفة «سلّة مشتريات سيدة المنزل» بالارتفاع بشكل يهدّد ميزانية الطبقات المتوسّطة. وتزداد أعداد الذين يلحقون بالطبقات الفقيرة. ويدرك الجميع أن ارتفاع أسعار النفط ينعكس مباشرة ارتفاعاً على أسعار مشتقات النفط وسلع أخرى، إلّا أنّهم يدركون أيضاً أنّه إذا تراجعت أسعار النفط، فمن النادر أن تعود أسعار السلع التي رافقت النفط بارتفاع ثمنها إلى ما كانت عليها.
والارتفاع الجنوني لأسعار مواد الطاقة يخفي بشكل ما ارتفاعاً جنونياً لأسعار مواد أولية أخرى لا تقل أهميتها الاستراتيجية عن النفط. ولا يلتفت المستهلك النهائي لهذه المواد المخبأة وراء ستار الصناعة والتصنيع، إلّا أنّ أهميتها تعادل، إن لم تكن تزيد بكثير، على أهمية النفط.
ففي ما يتعلّق بأسعار المواد الغذائيّة، ارتفعت أسعار السكّر بنسبة ١٨٠ في المئة منذ سنة ونصف السنة، وأسعار الذرة ازدادت بنسبة ١٠٠ في المئة في الفترة نفسها. ويحاول البعض تفسير هذا الارتفاع بازدياد انعدام التوازن في عملية العرض والطلب، الذي يسبّبه تحديداً ارتفاع الطلب في السوق الصينية (وجارتها الهنديّة، وإن بنسبة أقلّ)، التي تبدّلت معايير استهلاكها وتغيّرت أنظمتها الغذائية بفعل العولمة وشمولية العادات والتقاليد.
ويرى هؤلاء أنّ زيادة الطلب لم يرافقها زيادة الاستثمارات في مرافق الإنتاج، وبالتالي ازداد خلل ميزان العرض والطلب، مما حدا التكتلات التجارية الكبرى على الغرف من «الاحتياط الاستراتيجي» للعديد من المواد، وهو ما انعكس ارتفاعاً في البورصات العالمية «التي لا تفقه سوى الأرقام وتراهن على ارتفاع متواصل لأسعار بعض المواد».
ويضاف إلى هذه العوامل دخول «صناعة الطاقة النباتية منافساً أساسياً لصناعة الغذاء» في الطلب على بعض المواد (كولزا وذرة وسورغول). وهذه الصناعة موجّهة كثيراً نحو أسواق غنيّة في الدول المتقدّمة تستطيع دفع أسعار غالية للحصول على «طاقة نظيفة»، بينما الصناعات الغذائية تتقاسمها الدول الغنية والفقيرة. وإذا ارتفعت الأسعار، تستطيع الدول الغنية تغطية الفارق عن طريق آليّات الإمساك بالسوق عبر الاحتياطات الإلزامية التي تحتفظ بها، فيما تقف الدول الفقيرة عاجزة عن سدّ احتياجاتها بأسعار السوق العالمية.
ومن ناحية «المواد الصناعية الأوليّة الجامدة»، التي ترتفع أسعارها بشكل جنوني، يجدر الانتباه إلى ارتفاع أسعار القصدير. فقد وصل سعر الطنّ منه إلى ٣٨٩٠ دولاراً في نهاية الشهر الماضي، أي بزيادة قدرها نحو ٤٠٠ في المئة منذ منتصف عام ٢٠٠٦.
ومعطيات مردود هذا الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأولية تبقى السرّ الكبير الذي تتجنّب البورصات والمسؤولون السياسيّون الخوض فيه. إذ إنّ الارتفاع في أسعار هذه المواد يسجّل في البورصات العالمية، وقليلاً ما يرتدّ على مصدر المادة الأولية، أي الدول التي تحوي المناجم التي تستغلّها الشركات الكبرى.
ويقول أحد الخبراء إنّ «ثمن أيّ سلعة مصنّعة في الدول المتقدّمة» يتمّ تحميله مجموعة من الإضافات والضرائب التي تسهم في نمو هذه الدول وتقدّمها، بينما يصعب تحميل أسعار المواد الأولية أيّ إضافات، وفي كثير من الأحيان تكون الاتفاقات التي توقعها الشركات الكبرى مع الدول النامية «مقفلة لسنوات عديدة» وتغيب عنها بنود تأخذ في الحساب ارتفاع الأسعار الناجم عن المضاربات في البورصات العالمية. ومن هنا، نرى الدول المصدّرة للمواد الخام بأسعار «شبه ثابتة» مضطرة لاستيراد هذه المواد بعد تصنيعها بأسعار تشمل أرباح المضاربين والضرائب في دول التصنيع، وهو ما يزيد من خلل ميزانها التجاري بما لا تعوّضه مداخيلها من تصدير المواد الخام. وهذه الحال في معظم الدول الأفريقية التي تُعدّ الأفقر في العالم رغم وجود معظم مناجم هذه المواد الأوليّة، التي تشهد ارتفاعاً جنونياً في أسعارها، على أراضيها.