طوني صغبيني
طوال أكثر من عشرين عاماً من عمله في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وضع محمد البرادعي بصماته على مسار معظم الأزمات «النووية» التي شهدها العالم، تاركاً خلفه أينما حلّ، سيلاً من المديح أو النقد، من القوى الدولية الكبرى التي واجهته مراراً لتطويع وكالته بحسب أهوائها

النظرة المثالية إلى العلاقات الدولية، والشغف بالقانون، مسألتان رافقتا محمد البرادعي في مختلف مراحل حياته، التي بدأها عام 1962 بدراسة حقوقية في جامعة القاهرة أهلته للعمل في وزارة الخارجية المصرية، التي شغل في سبعينيات القرن الماضي منصب نائب الوزير فيها، قبل أن ينتقل للعمل في الأمم المتحدة في 1980.
شهد عام 1984 بداية علاقة البرادعي بالوكالة الدولية التي أوضح، عقب التحاقه بها: «لم أترك الخارجية لمواقف خلافية، لكنني أردت توسيع حدود الدور الذي أقوم به مدافعاً عن مصالح وطني الصغير إلى مدافع عن مصالح العالم بأسره». ومنذ ذاك الوقت، سعى البرادعي إلى تحقيق حلمه «بوضع القنابل النووية في متاحف» لتدلّ على حقبة ولّت من تاريخ النزاعات البشرية.
وكما في الخارجية، تميّز البرادعي بقدراته الدبلوماسية، فأصبح عام 1993 مديراً عاماً مساعداً للعلاقات الخارجية حتى اختياره للمرة الأولى مديراً عاماً للوكالة في 27 أيلول 1997 خلفاً للسويدي هانز بليكس. أسهمت واشنطن وقتها في مساعدة البرادعي للحصول على المنصب، على اعتبار أنه «الشخص المناسب الذي تريد إعطاءه هذا الدور، رجل من دولة نامية يملك ثقافة غربية، لكنه متعاطف مع العالم الثالث»، حسبما أعلن المندوب الأميركي لدى الوكالة جون ريتش في حينه.
أصبح عمل البرادعي، الذي أعيد انتخابه لأربع سنوات أخرى عام 2001، فجأة محط اهتمام العالم، إثر أحداث 11 أيلول، بعد إعلان الولايات المتحدة لائحتها من الدول المارقة الساعية لأسلحة الدمار الشامل، واكتشاف شبكة عبد القدير خان للاتجار بالمعرفة والتقنيات النووية. وسرعان ما اصطدمت «مثاليته» الممدوحة من واشنطن سابقاً، بالسياسات الأميركية نفسها، بعدما ابتعد التناغم بين الطرفين في البرنامج الكوري الشمالي، ليشتعل الجدل في أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة. أصرّ البرادعي حينذاك على أن البرنامج العراقي الذري تمّ التخلي عنه وتفكيكه بعد حرب الخليج الثانية، وازداد اقتناعه بذلك بعد حملة التفتيش الشهيرة بقيادة بليكس التي لم تجد شيئاً، فيما كان البيت الأبيض يخوض حملة شرسة بقيادة وزير الخارجية كولن باول لإقناع العالم بخطر الأسلحة العراقية لتبرير غزو بلاد الرافدين.
بعد المواجهات العلنية مع البرادعي، الذي أثبت ضعف الإثباتات الأميركية وبطلانها، وشكك بنيات اجتياح العراق، صمم البيت الأبيض على أن الهدف التالي بعد إزاحة صدّام سيكون... إزاحة البرادعي.
مهّدت واشنطن لإقالته بهجوم غير مسبوق، بلغ ذروته في أيلول عام 2004 باتهامه بمحاولة التأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية لمنع إعادة انتخاب جورج بوش لولاية ثانية، على خلفية نشره لتقرير قبل موعد الانتخابات بثمانية أيام، عُرف في ما بعد باسم «مفاجأة أيلول»، كشف فيه اختفاء 377 طناً من المواد الشديدة التفجر من تحت أعين القوات الأميركية في العراق.
عند اقتراب موعد انتخاب مدير جديد للوكالة الدولية، شنت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس والمندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة جون بولتون حملة لإقناع مجلس الوكالة بانتخاب وزير الخارجية الأوسترالي الكساندر داونر في هذا المنصب، بحجة عدم جواز انتخاب الشخص نفسه لثلاث ولايات متتالية. لكن البرادعي، الذي حاز عام 2005 جائزة نوبل للسلام مناصفة مع وكالته، لدورهما في الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، كان المرشح الأقوى على الإطلاق، ورفض داونر منافسته، وخاصة بعد تداعي الحجج الأميركية لغزو العراق، وفضيحة تنصّت الأجهزة الأميركية على هاتفه.
بعد إعادة انتخابه، أعلن الدبلوماسي المصري السابق أن «الخلافات الصادقة» مع الولايات المتحدة «صفحة طويت»، لكن في الواقع كانت صفحة جديدة من الخلافات تتفاقم حول الملف النووي التالي: إيران
منذ كشف البرنامج النووي الإيراني، ضغطت واشنطن على وكالة الطاقة لاتخاذ موقف حازم وإحالة المسألة مباشرة إلى مجلس الأمن. ورغم إقرار البرادعي بخطورة المسألة، إلا أنه دعم المقاربة الأوروبية لحلّ الأزمة بإعلانه منذ اللحظة الأولى أن «المشكلة لن تحلّ قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات».
وتبرز نقاط الخلاف الأساسية بين الطرفين، حول إعلان البرادعي عدم وجود أدلة على برنامج نووي عسكري، وإحجامه عن الضغط باتجاه وقف كامل لأعمال تخصيب اليورانيوم، واعتماد مقاربة دبلوماسية أتاحت له توقيع اتفاقات تعاون عديدة بين طهران ووكالته، رآها البرادعي إنجازاً يردم الثقة فيما رأتها واشنطن مماطلة وتسويفاً إيرانيين.
وتصاعدت الانتقادات أخيراً، بتناغم مع العدّ العكسي الأميركي لوضع حدّ للطموحات الإيرانية بالقوة، وصلت إلى حدّ المطالبة بإقالته من منصبه، وقد انضمت إليها إسرائيل علناً.
يبدو واضحاً أن المطلوب لبقاء البرادعي في منصبه، هو تقديم «حجة» ملائمة لإدانة إيران وتأمين غطاء لمغامرة أميركية جديدة.