حسن شقراني
للتعقيدات التي تحكم العلاقات الصينية ــ الروسيّة مصدران: عطش الاقتصاد الصيني للطاقة، وحاجة موسكو لتكريس قيادتها العسكريّة لآسيا الوسطى و«مواجهة الخطر الغربي». فكيف تكيّفت وتتكيّف تلك العلاقات لبناء حلف جيوسياسي تريده موسكو مواجهاً لـ«حلف شمالي الأطلسي»، بينما تركّز بكين على دوره في نموّ اقتصادها؟

روسيا قسّمت أوروبا وربحت «معركة التأثير»، وفقاً للتقرير الأخير الذي أصدره مجلس أوروبا للسياسات الخارجيّة، أوّل من أمس. وهذه النتيجة، التي ظهرت بعد 17 عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي و50 عاماً على نشأة الاتحاد الأوروبي، ولّدها عاملان: الأوّل هو انقسام بلدان أوروبا حول كيفيّة مقاربة العلاقة مع الجار الشرقي؛ فبين من يراها قائمة على «براغماتيّة الصداقة» (إيطاليا، إسبانيا...)، وآخرين على «براغماتيّة المواجهة» (بريطانيا، تشيكيا...) وطبعاً من يقيّمها على أسس استراتيجيّة (فرنسا، ألمانيا...)، ضاع التقييم الأوروبي الموحّد لكيفيّة «مواجهة ـــــ مؤانسة» «الخطر ـــــ الحليف» الضاغط من المركز السابق للشيوعيّة.
أما العامل الثاني فيكمن في الإدارة الناجحة التي تظهرها روسيا لـ«قدراتها»، المبنيّة على موارد الطاقة من الناحية الاقتصاديّة، وعلى التحكّم بملفّات ساخنة (في القارة العجوز على سبيل الحصر) وأبرزها «ورقة كوسوفو» من الناحية السياسية.
وفي الوقت الذي يمضي فيه المدير التنفيذي لمجلس أوروبا، مارك ليونارد، في تشبيه «العامل الروسي» بعامل «أميركا ـــــ دونالد رامسفيلد وغزو العراق» ودوره في تذويب الحربة الأوروبيّة السياسية، يمضي المحلّلون، في بحث تأثير «خطر» آخر (مستواه على الاقتصاد الدولي في المعنى الواسع)، يشكّله خمس سكان الأرض، مصدره شرقي أيضاً: دور الصين في العولمة.
فماذا يحدث عند تقاطع أوروبا الغربيّة وشرقها وشرق شرقها؟ تنشأ بكلّ بساطة معركة أخرى عنوانها: من يسيطر على آسيا الوسطى؟
قضى رئيس الوزراء الصيني وين جياباو يوم الثلاثاء الماضي بأكمله في موسكو ليتمّم مراسم انتهاء العام الصيني في روسيا، ويفتتح «المنتدى الاقتصادي المشترك» ويناقش مع سيّد الكرملين، فلاديمير بوتين، نواحي حيويّة في العلاقات بين البلدين. غير أنّ الهدف الرئيسي الذي كانت تطمح إليه العاصمتان من وراء الزيارة كان مسبقاً في حكم الانتفاء.
فقد فشل الطرفان في خطّ مسوّدة اتفاق ينظّم تصدير النفط الروسي إلى الصين، والذي كان محوره إنشاء أنبوب نقل من سكوفورودينو (في منطقة آمور في شرق روسيا) إلى الصين، لاستبدال طريقة النقل المعتمدة على السكة الحديدية. وسبب الفشل يمكن عزوه بكل بساطة إلى عدم الاتفاق على سعر موحد.
وبحسب تقارير إعلاميّة، نقلاً عن مصادر في الحكومة الروسيّة، فإنّ هاجس موسكو تمثّل في أنّه يجب مقاربة الاتفاق بطريقة معقّدة، تلائم طبيعته، كي يضمّ بناء الأنبوب وضمانات البيع وسياسة التسعير. وذلك رغم أنّ نائب رئيس الحكومة الروسيّة، ألكسندر زوكوف، ولدى ترويجه للمشروع في بكين خلال الشهر الماضي، شدّد على أنّ التوافق الحكومي حوله يجب أن يراعي فقط عمليّة الإنشاء، على أن تترك الجوانب الأخرى، وبينها التسعير، لتقرّ من قبل الشركات. غير أنّ الكثير حدث منذ شهر، والأبرز هو الضغوط المتنامية التي تفرضها الأسعار القياسيّة للنفط (وصل سعر البرميل خلال الأسبوع الجاري إلى 98 دولاراً).
الطرفان تعهّدا بعدم تجاوز بنود الاتفاق المقنِّن لآلية البيع والشراء، الذي أُقرّ عام 2005، غير أنّ الشركة الناقلة للنفط، «خطوط السكك الحديد الروسيّة»، ليست محكومة بأيّ معايير، ويمكنها تعديل التعرفة حسبما تنصّ الإدارة الفدراليّة لمستويات التعريفات.
وفي ظلّ ازدياد إفادة الصين، في الفترة السابقة، من المعايير القائمة، تعلو الأصوات في الحكومة الروسيّة المعارضة لنمط التبادل التجاري بين البلدين. ومن هنا يبدو أنّ موسكو حثّت المسؤول الصيني على شراء المعدّات الروسيّة للتغطية على الأسعار المخفوضة للنفط.
رئيس الوزراء الروسي فيكتور زوبكوف شدّد، بحضور جياباو، على «التحالف الاستراتيجي» بين البلدين، ورأى أنّه «قدري». غير أنّ القدريّة تسير بحسب مصالح تفرضها مستجدات إقليميّة ودوليّة. فهل يمكن التلاعب على المنحى الاستراتيجي في العلاقة لإبقاء التحالف قائماً؟ وكيف يوفّق البلدان بين المصالح و«مواجهة الخطر الغربي»؟
في عام 2001، دعا زعماء دول منظّمة «أبيك» (منظمة دول آسيا ـــــ المحيط الهادئ) إلى استبدال الدولار بعملة موحدة جديدة، في إشارة واضحة إلى تراجع النفوذ الأميركي في مركز القيادة في تلك المنطقة. وفي يومنا هذا يتوقّع المحلّلون أن يتضاعف الاقتصاد الصيني 3 مرات عمّا هو عليه ويقود اقتصاد العولمة من الناحية التجاريّة ومن ناحية الناتج الإجمالي المحلّي.
توسّع الاقتصاد الصيني (حيث نسبة النمو 10 في المئة ومتوقع استمرارها حتى عام 2015 عند هذا المستوى) لا يزعج روسيا إلّا بمدى تأثيره عليها، والمثال عن النفط خير دليل على ذلك. غير أنّ لموسكو هواجس أخرى تطلقها التوترات في الطرف الغربي لأوراسيا والضغوط الآتية من الغرب، وفي مقدّمها زحف «حلف شمالي الأطلسي» وتكيّف معظم بلدان جوارها مع أهدافه. فأين دور الصين في هذه المسألة؟
الحبكة تكتسب تعقيدها من وجود منظّمتين للتعاون الأمني في وسط آسيا، «منظمة شانغهاي» و«منظمة معاهدة الأمن الجماعي». ففيما الأخيرة تحت سيطرتها، سعت موسكو خلال السنوات الأخيرة، من خلال الضغط على بكين، لتوليف جهود المنظمتين في إطار اتفاق يلغي التضارب في سؤال «من القائد (العسكري) في آسيا الوسطى» الذي يدير «الجبهة» مع الغرب؟ والثمار قُطفت في العاصمة الطاجيكيّة، دوشانبيه، في 5 تشرين الأول الماضي.
فقبل يوم من قمّة المنظمتين المذكورتين ومنظمة «أوراسيك»، وقّع اتفاق تعاون بين «شانغهاي» و«الأمن الجماعي»، يتألّف من 4 بنود، أساسها التعاون على الصعيد الأمني وتبادل المعلومات «ضمن إطار القدرات المتاحة لكلّ طرف».
ويمكن تفسير الربح الذي اكتسبته موسكو من خلال الاتفاق بحجّتين: الأولى هي أنّ موسكو استطاعت أن تسحب، بشكل نسبي، منافسها الآسيوي (الصين)، نحو الاقتراب أكثر من «حلف ضد الغرب» من خلال تقديم العلاقات بين البلدين على أنها حلف عسكري في آسيا الوسطى. الثانية هي أنّ موسكو نجحت إلى حد ما في بلورة سيطرتها على وسط آسيا من خلال المضي قدماً في دمج منظمة تسيطر عليها مع أخرى تأثيرها يحدّه التوازن فيها، إلى جانب حلف اقتصادي آخر، تعبّر عنه «أوراسيك».
العلاقات الروسيّة الصينية في صراع الزعامة على آسيا الوسطى، وما يحفّز ذلك من أواليّات لتعزيز أوراق موسكو في مواجهة «الأطماع الغربية»، التي تحدّث عنها بوتين الأسبوع الماضي (وإن رمز فقط إلى الأطماع في الطاقة التي تريد «شق» بلاده)، تبقى مزيجاً معقداً من المنافسة والتعاون في مجالي الطاقة والأمن. والزعامة الاقتصادية الصينية المرتقبة للعالم، ستكون، على ما يبدو حتى الآن، في ظل زعامة روسيّة لآسيا الوسطى، لا تترك لبكين مجالاً للتعاطي مع الجيران سوى عبر «قناة موسكو»... أو أنابيبها!