حسام كنفاني
يحتاج التاريخ في العادة إلى عقود ليصدر حكمه على شخصيات كان لها أثرها على مسار أحداثه، لكن ثلاث سنوات كانت كافية لإظهار فداحة خسارة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على قضيته ومسارها، وربما مصيرها، الذي بات يترقب مجهولاً يأتي من غزة أو رام الله أو أنابوليس


أعوام الشتات الجغرافي التي أعقبت نكبة عام 1948 ونكسة 1967 لم تستطع تقسيم الشعب الفلسطيني، الذي كان مجمعاً على هدف واحد وقضية واحدة، ومجتمعاً في غالبيته العظمى حول رمز واحد كان اسمه ياسر عرفات أو أبو عمار، أو مثلما حلا للكثير من الفلسطينيين تسميته في سنواته الأخيرة «الختيار».
غير أن السنوات الثلاث التي أعقبت رحيل «الختيار» كانت كفيلة بتغيير خريطة الواقع السياسي الفلسطيني، ورسم خريطة جديدة، لم يبق الفصل فيها في السياسة، بل تعداه إلى الجغرافيا؛ فالمسافة بين الضفة الغربية وقطاع غزة باتت أطول من أن تقاس بالكيلومترات، واختلطت فيها رائحة الدم والبارود وقتال رفاق البندقية.
الذكرى الثالثة لاستشهاد عرفات تمرّ على حال فلسطينية متشرذمة، هي إحدى نتائج غياب هذا الزعيم الرمز، الذي نجح طوال فترة وجوده على رأس السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير في ضبط إيقاع لعبة السياسة الداخلية ومسك خيوطها، التي نادراً ما كانت تفلت من يديه. كان يتقن لعبة التناقضات، التي كانت تتيح له أن يبقى الوحيد الممسك بمفاتيح القرار الفلسطيني عبر غالبية محطاته، سواء في عمّان أو بيروت أو تونس، وحتى عندما عاد إلى رام الله وغزة.
في الذكرى الثالثة للاستشهاد الغامض، ما أحوج الفلسطينيين اليوم إلى حنكة هذا الزعيم ليدير بدهاء حالة الفصل السياسي القائمة، والتي بالتأكيد ما كانت لتحصل في ظلّه؛ فإلى رمزية قرار عرفات وكاريزميته، نجح الرجل في تجسيد أيديولوجيات طرفي الصراع القائم على الساحة الفلسطينية.
أبو عمار كان يمثّل، في تاريخه وجزء من أدائه السياسي في الداخل، المقاومة والممانعة الفلسطينية، التي ترفعها حركة «حماس» اليوم شعاراً لمعركتها الداخلية ومبرراً لاستيلائها على قطاع غزة. فهو لم يترك يوماً البندقية، التي كان يراها لسانه الثاني للتفاوض مع الإسرائيليين، وكان خير من سخّر هذه الوسيلة في خدمة إدارته للمفاوضات، ولم يتردّد في استخدامها أكثر من مرة.
وبناء عليه كان عرفات أفضل من خاض لعبة التفاوض مع الإسرائيليين، التي يرفعها الرئيس الفلسطيني محمود عباس اليوم شعاره الأول والأخير ويعوّل عليها لمواجهة «حماس» داخلياً، ولا سيما أنه عندما أراد تقليد الزعيم الراحل، باعتبار أنه «وريثه الديموقراطي»، وقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليعلن أنه يحمل غصن الزيتون فقط، متناسياً البندقية التي رفعها عرفات إلى جانب غصن الزيتون حين خطب أمام المنظمة الدولية في جنيف عام 1974، وقال حينها «جئت إليكم حاملاً بندقية وغصن زيتون، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي».
و«البندقية وغصن الزيتون» كان شعار انطلاق وتأسيس «كتائب شهداء الأقصى»، التابعة لحركة «فتح» عام 2000، بمثابة ردّ على فشل مفاوضات «كامب دايفيد»، وجزء من استراتيجية عرفات، الذي جعلته شوكة في حلق الإسرائيليين والأميركيين، الذين سعوا أكثر من مرة إلى التخلص منه، فقاطعه الرئيس الأميركي جورج بوش ورفض أي حوار معه، وحاربه وحاصره رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، بغطاء أميركي، إلى حين تمّ التخلص منه عام 2004 عبر مرض لا تزال تفاصيله غامضة إلى اليوم.

المرض والاستشهاد

إلى اليوم لم يعلن أحد رسمياً السبب الحقيقي لوفاة أبو عمار، إلا أن معطيات وألغازاً وتصريحات وتسريبات كثيرة أعقبت الوفاة، أكدت أن موت الزعيم الفلسطيني لم يكن نتيجة طبيعية لمرض عضال، بل بتدبير جهنمي متعدّد الأطراف شارك فيه الإسرائيليون والأميركيون وبعض الفلسطينيين، وحتى الفرنسيون.
وإلى اليوم، لا يزال مصير لجنة التحقيق التي ألّفتها السلطة الفلسطينية لكشف أسباب الوفاة غامضاً، وسط تشكيك العديد من المسؤولين الفلسطينيين، الذين كانوا مقربين من الرئيس الراحل، في جدية عمل اللجنة، ولا سيما أن الحديث الرسمي عنها لا يتعدى المناسبات الرسمية.
ورغم ذلك، فإن سيناريوهات عديدة رسمت للوفاة، لعل أبرزها حديث طبيب عرفات الخاص، الدكتور أشرف الكردي، الذي كان متابعاً لحالته الصحيّة، عن نوع من المؤامرة أحاط بوفاة الزعيم الفلسطيني.
فالكردي، الذي شغل منصب وزير الصحة في الأردن، كان من أقرب المقربين إلى الرئيس الفلسطيني الراحل، لكن استدعاءه لعلاج عرفات في مرضه الأخير تأخّر أكثر من 18 يوماً، وسبقه إليه فريق من الأطباء التونسيين والمصريين، رغم «أنهم اعتادوا استدعاءه كلما عطس الرئيس»، على حدّ قوله.
واشتكى الكردي، في أكثر من تصريح ومقابلة، إبعاده عن الوفد المرافق لعرفات في رحلته الأخيرة إلى باريس، مشيراً إلى أنهم «رفضوا تزويده بنتائج التحليلات الطبية التي أجريت في العاصمة الفرنسية. ورغم تكتمه على «هم»، والاكتفاء بالإشارة إلى مرافقي عرفات في باريس، فإن الطبيب الأردني كشف أن محمود عباس رفض طلبه إخراج الجثة وتشريحها.
وعرض الكردي فرضية تسميم عرفات وحقنه بفيروس نقص المناعة المكتسبة (إيدز)، مستنداً إلى بريد إلكتروني وصله من مستشفى بيرسي العسكري الفرنسي يعلمه فيه بأنه تم اكتشاف الفيروس في دم عرفات. إلا أنه يجزم أن الإيدز ليس سبب الوفاة، بل هو للتغطية على عملية التسميم، ولا سيما أنه كان قد أجرى فحوصاً للرئيس الراحل قبل أشهر من الوفاة لم تظهر الفيروس. وأشار إلى أن السمّ كان يعمل على تكسير خلايا الدم الخارجة من النخاح الشوكي.
المستشار السياسي للرئيس الفلسطيني الراحل، بسام أبو شريف، لا يزال إلى اليوم من أشدّ المدافعين عن نظرية تسميم عرفات، ويؤكّد أن بحوزته معلومات تدعم هذه النظرية، لكن «وقت قولها لم يحن بعد».
ويشبّه أبو شريف، وغيره، استشهاد أبو عمار، باستشهاد القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الدكتور وديع حداد عام 1978، الذي تؤكد كتب ووثائق إسرائيلية أنه اغتيل عبر شوكولا بلجيكية مسمومة نقلت إليه من أوروبا إلى العراق.
ولقصة التسميم تفاصيل مختلفة لدى أبو شريف، إذ يقول إن «السمّ وضع في الطعام ويدخل عبر مسام التذوق في اللسان ويأخذ ما بين 8 أشهر إلى عام حتى يقتل ضحيته. ويعمل على تعطيل كل أجزاء الجسم الداخلية وآلياته واحدة تلو الأخرى حتى يصل إلى الدماغ».
إلا أن رواية السمّ في الطعام تجد ما يناقضها في روايات الحرس الخاص لعرفات؛ فنائب مسؤول الحرس في المقاطعة، منير الزعبي، يؤكّد أن الجميع في المقاطعة المحاصرة كان يتناول الطعام نفسه، ولم يكن هناك طعام خاص لعرفات أو غيره، مرجحاً فرضية التسميم عبر اللمس، وخصوصاً أن عرفات كان يستقبل وفوداً فلسطينية وأجنبية وحتى إسرائيلية كثيرة في مقرّ حصاره.
الأمين العام للرئاسة الفلسطينية الطيب عبد الرحيم يرجّح فرضية التسميم عبر الأدوية، ولا سيما أن الأدوية التي كان يتناولها عرفات كانت تمر عبر الرقيب الإسرائيلي، إضافة إلى أن الرئيس الراحل كان يتقبل هدايا كثيرة من الوفود التي كانت تزوره، وبعضها كان يقدّم له «أدوية مقوّيات».

المنفّذ الإسرائيلي

بالطبع لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عن قتل عرفات، وملفات «الموساد» لا يزال أمامها وقت طويل لتكشف الدور أو المداولات الإسرائيلية إبان فترة مرض عرفات واستشهاده. لكن صحفاً وكتباً وتسريبات إعلامية إسرائيلية وأجنبية تحدثت كثيراً عن الوفاة والمداولات بين شارون ووزير دفاعه شاؤول موفاز قبل الاغتيال، وحتى مداولات بين شارون وبوش توحي بأن شيئاً ما كان يعدّ.
الصحافي الإسرائيلي أوري دان، الذي كان من أقرب المقربين لشارون، نقل في كتابه «أسرار شارون» نص الحوار الذي دار بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأميركي خلال قمتهما في 14 نيسان 2004، والذي قال دان إن شارون تحرّر بموجبه من الوعد الذي كان قد قطعه لبوش عام 2001 بعدم المساس بعرفات.
ويكشف دان عن أن شارون قال لبوش، خلال اللقاء، إنه «لا يعدّ نفسه ملتزماً بذلك الوعد الذي نجح الرئيس الأميركي في الحصول عليه منه أثناء لقائهما الأول»، عندما فاز حزب الليكود بالانتخابات العامة وألّف زعيمه حكومته الأولى. إلا أن بوش ردّ بالقول «قد يكون من الأفضل إبقاء مصير عرفات بأيدي قوة عليا، بأيدي الله»، فأجاب شارون «قد يكون من الواجب أحياناً مساعدة الله». ويتابع دان أنه حين لم يجب بوش على الجملة الأخيرة، شعر شارون كأنه تحرّر من «عبء ثقيل».
الحوار بين بوش وشارون من الممكن أن يتطابق مع حوار آخر بين شارون وموفاز، قال بسام أبو شريف إنه حصل عليه من مصادر مؤكّدة. وبحسب هذا الحوار، قال وزير الدفاع لرئيس الوزراء «أنت أعطيت وعداً لبوش بأن اسرائيل لن يكون لها علاقة بقتل عرفات. عرفات سينتهي ولن يستطيع أحد أن يتهم اسرائيل»، فرد عليه شارون «إفعل ولا علاقة لإسرائيل».
عاموس جلعاد، رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، والرجل الأقوى في الاستخبارات العسكرية، دعا في أكثر من مناسبة إلى «إيجاد طرق خلّاقة» للتخلص من عرفات.

التقرير الفرنسي وشيراك

لم يخرج تقرير مستشفى بيرسي الفرنسي إلى العلن، رغم تسليمه إلى السلطة الفلسطينية وزوجة عرفات، سهى الطويل. وينفي ابن شقيق عرفات، ناصر القدوة، أن يكون التقرير قدّم تفاصيل عن الوفاة، غير ما اعلن في بيان الوفاة الرسمي: «عرفات مات بسبب توقف دماغه وأجزائه الداخلية وقلبه عن العمل».
ومع ذلك، بقي التقرير طي الكتمان، ولم تسمح السلطة أو عائلة الزعيم الفلسطيني الراحل بالكشف عنه. حتى المستشفى الفرنسي أصرّ على رفض الإفصاح عن محتويات التقرير باعتباره «انتهاكاً للقانون». إلا أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أكدّ أنه «يعلم اسباب الوفاة ولن يفصح عنها حرصاً على القضية الفلسطينية».
علامات الوفاة والظروف السياسية والتكتم الشديد، وحتى التجهيل، لما كان السبب المباشر لوفاة عرفات، تؤكّد أن الأمر لم يتم في ظروف طبيعية، ولئن كانت المعطيات الرسمية لا تقدّم اليوم بياناً رسمياً بطبيعة حالة الزعيم الفلسطيني، فإن معطيات غيرها تؤكد أن الاغتيال تمّ «بطريقة خلّاقة» وعبر «مساعدة الله». فهم أرادوه «قتيلاً أو أسيراً أو طريداً»، لكنه بات «شهيداً، شهيداً، شهيداً».