حسن شقراني
ارتفاع الذهب وانخفاض الدولار «يبشّران» بتضخّم... مصحوب بركود

يوم 15 آب عام 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى شعبه والعالم مجموعة إجراءات اقتصاديّة بينها تعهّد برفع حجم التوظيف بنسبة 10 في المئة، وفرض ضريبة جديدة بنسبة 10 في المئة على الواردات. غير أنّ خطابه المباشر تضمّن ما هو أهمّ، قضى على كلّ ما عهده عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في الاقتصاد السياسي؛ فقد تمّ الإقرار «بصورة مؤقّتة» بتعليق ربط الدولار بالذهب والتحويل بينهما. السبب كان بسيطاً وإن كانت النتائج معقّدة. فبحسب «اتفاقية بريتون وودز» (وقّعت في تموز عام 1944)، كانت آلية تبادل العملات، وتحديد أسعار الصرف، قائمة على مبدأ أساسي: الولايات المتحدة تتعهّد شراء الذهب عند حاجز الـ35 دولاراً للأونصة، وهو ما أمّن مرجعاً يحدّد قيمة الدولار والعملات الأخرى بطبيعة الحال.
وما حضّ نكسون على خطوته، وهو العامل الأهم بين عناصر أخرى في عالم كان يعيش أوج الحرب الباردة ويتجه نحو أزمتين نفطيّتين، هو ارتفاع الطلب على الذهب الأميركي من جانب المصارف المركزية حول العالم، على سبيل المثال، المصرف الفرنسي كان يراكم الدولارات بكميات ضخمة لنقل المعدن الأصفر من خزنات «فورت نوكس» إلى نظيرتها في باريس.
تلك الخطوة التي جاءت طارئة للإدارة الأميركيّة المذعورة من إمكاناتها المتضائلة لتلبية الطلب المتزايد على تحويل دولارات المصارف المركزية إلى ذهب، جاءت أيضاً من دون التشاور مع «الشركاء» في صندوق النقد الدولي (الذي أنشأته «بريتون وودز» ومعه البنك الدولي). وأدّى إغلاق «نافذة الذهب» إلى ارتفاع متزايد في أسعار المعدن الثمين، الذي يعدّ العملة الأكثر قدماً والأرفع قيمة والملجأ الأخير في أزمنة الأزمات والحروب.
وما حدث خلال الأسبوع الماضي يندرج في إطار هذا المنطق؛ فقد سجّل سعر أونصة الذهب رقماً قياسياً تجاوز الـ800 دولار، وإن لم يتخطّ ذلك الحاجز القياسي التاريخي لعام 1980 (المقدّر بـ 2200 دولار في يومنا هذا إذا عدّلت المعطيات مع نسبة التضخّم). السبب بسيط جداً؛ فانخفاض قيمة الدولار يحثّ المستثمرين في الأسواق المالية، والمضاربين، على تحويل محافظهم إلى الذهب، نظراً للقيمة الكبيرة التي يختزنها. كما يحثّ المستثمرين الأجانب على طلب الذهب، المقوّم بالدولار، نظراً لانخفاض التكلفة المترتبة عليهم، نسبياً، لامتلاكهم عملات قويّة (يورو أو ين أو باوند).
وبنظرة أشمل، تلفت الانتباه نسبة الارتفاع التي بلغت 32 في المئة في سعر الذهب منذ بداية العام الجاري (الأسبوع الماضي وحده شهد ارتفاعاً بقيمة 3.2 في المئة) ما يفيد بتشاؤم متزايد بمستقبل الدولار. وبحسب كبير المحلّلين في «كيتكو بولين ديلرز» في كندا، جون ندلر، فإن «هناك بوادر تعب من هذا السباق الطويل (في أسواق التداول)»، موضحا أنّ تصحيحاً بقيمة 100 دولار يبقى مطروحاً، غير أنّ السيناريو الأرجح هو محاولة كبح الأسعار عند مستوى الـ800 دولار للأونصة.
المتحمّسون للذهب كانوا قد حذّروا في وقت سابق من انهيار سعر صرف الدولار في ظلّ انخفاض المدخرات والعجز المرتفع في الحسابات الجارية في الولايات المتحدة. غير أنّ حججهم في موضوع الضغوط التضخمية (وتبلورها في ارتفاع أسعار السلع والنفط) يبقى متجاهِلاً لنسبة «التضخّم الجوهري» التي يرون أنّها ثابتة.
وفي هذا الصدد يقول اختصاصي سوق المعادن في «دويتشيه بنك»، مايكل بلومنروث، إنّ السوق تتبع الدولار «والناس ينتظرون وصول سعر أونصة الذهب إلى 850 دولاراً»، فالشعور السائد هو أنّ الاحتياطي الفدرالي متوجّه نحو خفض أكبر في أسعار الفوائد وضعف أكبر في العملة الأميركية.
والمخاوف من مواجهة الشركات المالية الأميركية، واقتصاد الولايات المتحدة، لنتائج وخيمة ممتدّة لأزمة السوق الائتمانية (الأزمة التي انطلقت في 9 آب الماضي)، دفعت بالمستثمرين إلى «الملجأين الآمنين»، اللذين سجل كلاهما أرقاماً قياسية في سعريهما خلال الأسبوع الماضي: النفط والذهب.
ارتفاع ثمن الذهب، بالنسبة إلى القلقين على مستقبل الاقتصاد العالمي، يمثّل رافداً مهماً لذلك القلق؛ فارتفاع أسعار المعادن الثمينة يفترض تراكماً للضغوط التضخمية، فيما يوضح مؤشر الطلب على المعادن الأساسيّة أنّ قطاع التصنيع في ضائقة. وبالتالي، فإنّ ما يمكن توقعه هو تضخّم مصحوب بركود اقتصادي، وهو النتيجة الأسوأ لحاملي السندات والأسهم على حد سواء.
المصارف المركزيّة تتنافس على تكديس الذهب في خزاناتها منذ ما قبل «بريتون وودز» وبعد انهيارها. وما يمكن تحليله في أسواق السلع والمال والمعادن هو جزء من منظومة معقدّة، تحدّد توجّهها عوامل سياسية ومالية واقتصادية عديدة. وفي ما يخص الذهب تحديداً، فإنّ «أتباعه»، الذين يرون أنه الشكل الوحيد «الحقيقي» للمال، في عالم تسيطر عليه العملات الورقية، متوجّهون على ما يبدو نحو فرح عظيم مع توتر الأسواق وانخفاض قيمة الدولار (أصبح أقلّ قيمة من الدولار الكندي!). فالذهب ترتفع قيمته في أوقات الأزمات والحروب، وهذا ما يحدث بالضبط.