strong> حسام كنفاني
التصوّر الأوّلي لتحرك «فتح» في غزة، أول من أمس، قد يعطي انطباعاً بأنها استعادت الروح والقدرة على المبادرة في القطاع المحكوم سياسياً وأمنياً منذ حزيران الماضي من غريمتها التقليدية «حماس».
قد لا يكون هذا الأمر بعيداً عن الواقع، لكن التحرّك يحمل في طياته أبعاداً أخرى تستغلها «فتح» للّعب على وتر القطاع ومناكفة «حماس» التي، لا شك، صُعقت بحجم الحشد غير المسبوق حتى إبان وجود «فتح» التنظيمي في القطاع قبل عملية «الحسم العسكري».
ولا شكّ أيضاً أن سلطة الرئيس محمود عباس، ومن ورائها «فتح»، ستسعى جاهدة لاستثمار هذا الحشد الجماهيري ليكون موطئ قدم حقيقياً لعودة الحركة إلى أداء دور في ساحة القطاع، وإن كانت تدرك جيداً أن من خرج في تظاهرة أول من أمس لا يمكن تصنيفه في الخانة «الفتحاوية» تماماً، ولا سيما أن ذكرى استشهاد الرئيس ياسر عرفات ورمزية هذا الزعيم، أدّتا دوراً محورياً في استقطاب جماهير لا تنتمي بالضرورة إلى الحركة.
فمعايير التحرّك الجماهيري كانت أبعد من مجرّد إطار تنظيمي «فتحاوي» يحنّ إلى أمجاد سابقة. وإضافة إلى رمزية الذكرى، كانت للأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية في قطاع غزة اليد الطولى في حال التجييش الجماهيري التي حكمت تظاهرة ذكرى أبو عمار.
ويبدو أن رهان السلطة و«فتح» وإسرائيل أيضاً على تداعيات تضييق الخناق على القطاع ومحاصرته قد بدأ يؤتي ثماره، فالضائقة الاقتصادية والغلاء ونفاد البضائع وانقطاع الكهرباء وغيرها كانت من دوافع «الانتفاضة» الغزاوية، لا «الفتحاوية»، على حركة «حماس».
إلا أن هذه الانتفاضة لا بدّ لـ«فتح» من تجييرها إلى اسمها، باعتبارها صاحبة الدعوى إلى التجمّع الجماهيري، وهو ما بدا واضحاً في تعليقات مسؤولين من «فتح»، أمس، على أن «حماس ستسقط بالقوة الشعبية لا بالسلاح».
وفي مثل هذا التصريح دلالة على أن تحرّك أول من أمس بالتأكيد لن يكون الأخير، وخصوصاً أن النقمة الشعبية على «حماس» في تصاعد مستمر. فإضافة إلى الوضع الاقتصادي الخانق الذي يحمّل الكثير من الغزاويين «حماس» المسؤولية المباشرة عنه لرفضها التراجع عن عملية الحسم العسكري، هناك أداء الحركة في الشهور التي تلت الحسم وإدارتها البوليسية للقطاع، سواء لجهة عمليات الدهم والاعتقال ومنع التجمعات أو حتى ممارسات القوة التنفيذية التي اقتربت من الشرطة الدينية، ما زاد حال التململ في صفوف الغزاويين.
وإن كانت هذه الحال في السابق تقتصر على الأحاديث الجانبية خوفاً من الصدام مع الشرطة «الحمساوية»، فإن التظاهرة الأخيرة كسرت حال الخوف، وهو ما قد تعمل عليه «فتح» في الأيام المقبلة لتسخير النقمة الشعبية في خدمة عودتها التنظيمية.
في المقابل، لا بد لظاهرة التحرك الحاشد من أن تدفع «حماس» إلى إعادة حساباتها في القطاع ميدانياً وسياسياً. والحركة لا بد أدركت أن الصورة التي أعقبت الحسم العسكري لجهة سيطرتها المطلقة على قطاع غزة قد تفتّتت. وتحرّك أول من أمس قد تتبعه تحركات متنقلة في سائر أنحاء القطاع، لذا عمدت «حماس» إلى سلسلة من الإجراءات أولها مداهمات واعتقالات، وثانيها منع أي تجمّع مستقبلي لـ«فتح»، وثالثها إطلاق حملة إعلامية للتبخيس بالتجمع، سواء لجهة الحشد أو الانضباط، فقد حفلت مواقع الحركة أمس بقراءات مع رسوم إيضاحية وحسابات تقنية للكم البشري الذي يمكن أن تستوعبه ساحة التظاهر، لتخرج برقم مئة وخمسين ألفاً حداً أقصى، مناقضة تقديرات وكالات الأنباء و«فتح» التي تراوحت بين 300 ألف ومليون نسمة.
وعلى رغم ذلك لا بد من أن تدرك «حماس» أن رقم 150 ألفاً ليس قليلاً في حسابات قطاع غزة الذي يضم نحو مليون ونصف مليون نسمة، ولا سيما أن هذا الحشد كان في مدينة غزة فقط. ولا بد أيضاً من أن تستوعب حجم التراجع في شعبيتها في القطاع خصوصاً والضفة الغربية عموماً، فالحركة التي حصدت 60 في المئة من أصوات الناخبين الفلسطينيين في أواخر عام 2005 لن تستطيع، في حال إجراء الانتخابات اليوم، الحصول على أكثر من أصوات أعضائها المباشرين، ولا سيما أن المدّ الشعبي الذي أوصلها إلى الحكم كان نابعاً من النقمة على الفساد والخيارات السياسية «الفتحاوية» على مدى عقد من الزمن، وهي نقمة باتت تتشارك فيها «فتح» و«حماس» على حد سواء.
والأهم أن الحركة باتت تدرك، وبحسب مصادر مقرّبة منها، أن الرهان على نهاية القائد «الفتحاوي» محمد دحلان سقط، ولا سيما أن نفساً دحلانياً بات يتصاعد من الضفة وصولاً إلى قطاع غزة، وقد تجلى في هتافات المتظاهرين أول من أمس. وتؤكد المصادر نفسها أن دحلان بات يعمل على إرساء قاعدة جماهيرية في الضفة الغربية مماثلة لتلك التي كانت لديه في قطاع غزة، ومن الممكن أن تكون قاعدة انطلاق جديدة له.
هذه المعطيات لا تقلّل من شأنها أنباء الخلاف بين دحلان والرئيس محمود عباس، ولا سيما أن دحلان لا يزال يعدّ الرجل القوي لـ«فتح» على أكثر من صعيد، فهو من ألمع وجوهها الشابة، بغض النظر عن سجله المثير للجدل وعلاقته بالولايات المتحدة وإسرائيل، ويمثل، مع قليل غيره، رمز استمرارية الحركة، وبالتالي فالاستغناء عنه تنظيمياً غير يسير.
وقائع كثيرة فرضت نفسها في الذكرى الثالثة لاستشهاد عرفات، تنبئ بأن غزة قد تكون مقبلة على مرحلة مواجهة من نوع جديد، تحت عنوان «المطالب الشعبية».