حاورته: هلا بجاني
يستقبلك النائب العربي الدنماركي ناصر خاضر في مكتبه البرلماني بحرارة فائقة. يبتسم ويبدو مرتاحاً إلى وضعه. فهو، كما يقال عنه، «الرجل السياسي الأكثر شعبية» عند الطبقة المفكرة الدنماركية، بعدما تميّز بمواقفه المعتدلة خلال أزمة الرسوم وناضل لتقديم صورة إيجابية عن «المسلمين الديموقراطيين». وكان لـ«الأخبار» معه هذا الحوار:

• ماذا يعني لك النجاح وأنت في الأربعين من عمرك وأب لفتاتين من أم دنماركية؟
- الدنمارك أبوابها مفتوحة والحلم الأميركي ممكن فيها أيضاً. هنا، اذا كان لديك الإرادة أن تقوم بجهود كافية، فبإمكانك أن تصل إلى أي منصب. لكن الانخراط يتعلق بالفرد.
نحن خمسة أولاد، وكل واحد منا استطاع أن ينجح في المجال الذي اختاره. أنا شخصياً كنت منذ البداية منفتحاً على المجتمع الدنماركي. كان لدي أصدقاء دنماركيون كثر وأحب أن أكون معهم وألعب أيضاً وأن نزور بعضنا بعضاً في بيوتنا، واللغة هي الأداة الأولى للانخراط، ولا يمكن أن تتعلمها في المدرسة فقط، بل الشارع والأصدقاء هم الوسيلة الأفضل.
لكن الكثير من المهاجرين الذين يصلون إلى الدنمارك لديهم انطباع سيّء بأن هناك مؤامرة وتمييزاً ضدهم. منذ عشر سنوات، عندما ترشحت الى منصب عضو مجلس بلدية، طلب مني الكثير من الأصدقاء العرب أن أفقد الأمل على اعتبار أن الدنماركيين لن ينتخبوني. وتكررت القصة عندما ترشحت إلى البرلمان. لكنهم كانوا على خطأ، إذ دخلت إلى البرلمان في تشرين الثاني 2001، أي بعد شهرين على حادثة 11 أيلول.

• هل تحكم عليك شروط الانخراط بالتخلّي عن شخصيتك العربية؟
- أنا أعتبر نفسي دنماركياً من أصل عربي، وينتقدني البعض على ذلك. ولكن أنا اليوم عضو في البرلمان الدنماركي، انتُخبت بأصوات دنماركية لا عربية. وقبلت مسؤولية تمثيل الشعب الدنماركي، وبالتالي اعتبر نفسي دنماركياً أوّلاً. لكن الجالية العربية في الدنمارك خصوصاً، وأوروبا عموماً، تستصعب ذلك.

• الدنمارك فتحت أبوابها عام 1975 لاستقبال المهاجرين. ألا تعتقد أنها تكرّر الأخطاء التي ارتكبتها فرنسا في عزل المغتربين في غيتوات أولاً، ثم في تسييس هذه المسألة الاجتماعية؟
- الدنمارك مثل العشيرة، ويوم يدخل غرباء على أي عشيرة تتزعزع القواعد التي يُبنى عليها المجتمع، الذي تحوّل من مجتمع متجانس إلى مجتمع متعدد الجنسيات والمعتقدات. إضافة إلى ذلك، فإن الدنمارك دولة رخاء، وترى أن مسؤوليتها أن تواكب كل فرد لتؤمّن له الدخل والطبابة والتعليم. ويتقاضى كل مهاجر راتباً شهرياً في مقابل أن يتعلم اللغة أو مهنة. باعتقادي أن الدولة الدنماركية تؤمّن الكثير لمهاجريها رغم التغيير الأخير في السياسات التي شهدناها على يد تأثير حزب «الشعب» (اليميني).

• ما هي مسؤولية الدولة في انخراط المهاجر في مجتمعه؟
- أعتقد أن الفرد هو المسؤول عن انخراطه في المجتمع، أمّا الدولة، فعليها أن تسنّ القوانين التي تسهّل الانخراط عبر التعلّم وتوفير فرص العمل ومنع التمييز ضدّ الأجانب.

• ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لتقويم الاندماج والانخراط في الدنمارك؟
- الدنمارك هي البلد الوحيد حسبما أعتقد الذي صوّت على «قانون الانخراط» عام 1999، مع برنامج مواكب مدته ثلاث سنوات لمساعدة القادمين على الانخراط في المجتمع، عبر مساعدتهم على تحديد منطقة سكنهم لتفادي الغيتوات، ومنحهم عشرين ساعة في الأسبوع لتعلم اللغة مجاناً، وتقديم دورات للمهاجر ووضع خطة مهنية معه ترتكز على طموحات كل فرد وقدراته.
ومن هنا، يمكننا أن نرى أن الدنمارك نجحت في قسم أساسي، وهو أن جميع المهاجرين يتكلمون اللغة بشكل جيد، وهذا يعدّ المعيار الأساس في تقويم الانخراط. لكن يمكننا القول أيضاً إن الحكومة الدنماركية فشلت في خطة انخراط المهاجرين في سوق العمل وتحتل الدنمارك المرتبة الـ15 في جدول دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة (ocde).

• ما سبب هذا الفشل؟
- الأسباب عديدة، وهناك دراسة تقول إن 75 في المئة من الذين يجدون فرصة عمل، تكون إما عبر المعارف الخاصة أو الشبكات الاجتماعية لديهم، و25 في المئة فقط يجدونها عبر القنوات الرسمية.
بعض العرب هنا لا يبنون شبكات مع المجتمع الدنماركي، بل يبقون في مجتمعاتهم المنغلقة، ولا يشاركون في النوادي الرياضية أو الأهلية المحلية.

• لكن الدنمارك تستقطب يومياً عدداً كبيراً من العاملين من أوروبا الشرقية لحاجتها الماسة إلى عمّال في مجالات عديدة، فلماذا تبقى نسبة البطالة عند المغتربين عالية جداً؟
- هناك بعض الأعمال التي ترى الجالية العربية أنّها غير لائقة بها، وتفضل البطالة مع التقديمات الاجتماعية على المهن التي تعرض عليها أحياناً. لكن الأمر تغيّر في ظل تحسّن الوضع الاقتصادي في الدنمارك. كما أن هناك مشكلة التديّن المحافظ، فبعض النساء يرفضن العمل في المتاجر، لأنهن يرين أن دينهن يمنعهن عن بيع الكحول ولحم الخنزير. ولكن تبقى هذه الظاهرة محدودة. وقد يكون الدين في بلاد الاغتراب ركناً أساسياً لتحصين هوية الفرد أو المجموعة فيصبح أكثر تشدّداً عما كان لو أنه بقي في بيئته المألوفة. ولو اطمأنّ الفرد إلى أن اندماجه لن يخلع عنه هويته الأصلية.

• ألا ترى أن هذا التشدّد الإسلامي في البلاد الغربية له علاقة مباشرة بالصورة السلبية التي يعكسها الغرب عن المسلمين؟
- طبعاً هذا أحد الأسباب. ولكن هناك ظاهرة أشار إليها سفير بلد مغربي عندما أبلغته أن المهاجرين من بلاده متشددون، وسألته إن كانت هذه هي الحال في بلاده، فكان الجواب طريفاً للغاية، إذ قال: «لا، ليس لدينا أصوليون في بلادنا. فبعضهم في السجن وبعضهم الآخر هاجر إلى أوروبا».
والحقيقة هي أن هناك بعض الشيوخ المتشددين غير المسموح لهم بممارسة نشاطهم في بلادهم، ويجدون في أوروبا هامشاً أكبر من حرية التعبير ويستغلّون الفقر والجهل وربما القهر الطاغي على الجاليات المسلمة ويعتنقون خطاباً معادياً جدّاً للبلاد التي استقبلتهم. مثلاً «حزب التحرير» ممنوع في غالبية البلاد العربية، لكن مسموح له بالعمل هنا. المتطرفون لا يزالون أقليّة في أوروبا لكن صوتهم عالٍ، والمتطرفون الغربيون يجدون في خطاب هؤلاء ما يبرّر سياساتهم المتشددة ضد العرب والمسلمين. واللوم على المسلمين المعتدلين والديموقراطيين الذين لا يُسمعون أصواتهم.

• ألا تشعر بأن تعريف «المواطن العربي الصالح» يشبه تعريف «الدول العربية المعتدلة»؟
- إن تعريف الدول العربية المعتدلة يعكس فقط المعايير المزدوجة التي كثيراً ما عوّدتنا إيّاها الولايات المتحدة في مقاربتها لكل مشاكل الشرق الأوسط، فلا صلة لهذه البلدان بالاعتدال عندما تكون عاجزة عن أن تؤمّن أبسط معايير الديموقراطية والحريات الشخصية لمواطنيها. أمّا المواطن العربي المندمج، فلم يتخلّ عن ركائز بيئته، لكنّه يختار عمداً أن يعتنق أيضاً المبادئ وأصول العيش في بلده الثاني الذي طلب ونال وحمل جنسيته.
ما يهمّ الدنماركيين أولاً وأخيراً هو احترام الأنظمة الديموقراطية التي بني عليها البلد، بعيداً عن كل الاعتبارات الأخرى. إذا تقبّل المواطن العربي في الدنمارك أن الديموقراطية تأتي أولاً فيمكنه أن يمارس الدين والطقوس التي يختارها، أن يتبع الحزب الذي يختاره وألّا يغيّر الكثير من عاداته.

• لماذا أحسست بأنك بحاجة إلى تأسيس «حزب التحالف الجديد»؟
- دخلت حزب «الراديكال» (الوسطي) منذ عام 1984، وبقيت عضواً فيه 23 سنة، وكان مبدأهم قائماً على التعامل البراغماتي مع اليمين واليسار على حد السواء. ولكن في السنوات الثلاث الأخيرة، شعرت بأنهم تخلّوا عن البراغماتية وأصبحوا يمارسون استراتيجية: يجب أن نحصل على ما نريده كاملاً ولا نقبل بالمساومة. وبدأ يميل كثيراً إلى اليسار في المواضيع المالية والضرائبية، وأحسست أنهم لا يحاولون استيعاب المعطيات الاقتصادية الجديدة، ففضّلت الخروج من الحزب.
وحاولت تأسيس التحالف الجديد والعودة إلى المبادئ الأولى لحزب الراديكال، أي أن أبقى بعيداً عن التسميات الايديولوجية، إذ هناك حاجة ماسة إلى الوسط في ظل التوجهين اليميني واليساري، ومن هنا جاء النمو السريع للحزب منذ تأسيسه. وفي دخولنا إلى البرلمان، حتى بعدد ضئيل من المقاعد، سنصبح شريكاً يخلق توازناً عكسياً لحزب الشعب.

• ما هو برنامج حزبكم؟
- «التحالف الجديد» هو أوّل حزب ينشأ منذ 1995 وقد انتمى اليه في بضعة أسابيع أكثر من 350 الف عضو، وهو ما فاق كل التقديرات. أردنا الحزب، منذ البداية، بعيداً عن أي طرح ايديولوجي ونريد التعامل مع جميع المواضيع بتجرد وموضوعية. أصلنا ديموقراطيون اجتماعيون، لكننا نرى أن الإنسان الحديث يمكن أن يجمع بين اليمين واليسار والوسط. يرون أنني يمينيّ في نظام الضرائب، ويساريّ بالنسبة إلى برامج السياسة الخارجية والتربية والبيئة.
في النظام الضرائبي، نرى أن خفض الضرائب إلى 40 في المئة من الدخل الفردي (بدل الـ63 في المئة الحالية على دخل سنوي يتعدى 60.000 دولار) يمكن أن يحثّ المهن الحرة على إنتاجية أكثر وفرص عمل جديدة.

• هل ترى لنفسك دوراً في السياسة الخارجية الدنماركية، ولا سيما في مسألة الشرق الأوسط؟
- أحاول أن أؤدي هذا الدور ولدي اتصالات كثيرة مع سفراء الدول العربية في الدنمارك. غالبا ما أقول لهم إن عليهم يتّخذوا السفير الإسرائيلي قدوة لهم. مثلاً، يوم الانتفاضة الثانية عبرت عن رأيي في أن على الدنمارك أن تسحب سفيرها احتجاجاً على العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد المدنيين، فاتصل بي السفير الإسرائيلي فوراً معرباً عن أسفه للموقف الذي أعلنته، وطلب مني أن نلتقي على وجبة غداء لنقرّب وجهات النظر. وعندما يكون الشرق الأوسط على جدول النقاش في البرلمان، فغالباً ما يكون السفير الإسرائيلي موجوداً ويتابع النقاشات ويحاول بناء علاقات مع النواب المعنيين. لا أذكر مرّة أن التقيت سفيراً عربياً في البرلمان. وعندما تصدر آراء عنصرية عن حزب «الشعب»، لا نسمع أي صوت من أي سفير عربي. أمّا على الصعيد السياسي، فأنا عضو في اللجنة الخارجية وأحاول أن أبقي دوماً الشرق الأوسط على جدول الأعمال.

• ألا يلفتك أن جميع الحركات القومية العربية من المقاومة الفلسطينية إلى اللبنانية بدأت حركات علمانية ويسارية لتتحوّل بغالبيتها إلى مقاومات اسلامية؟ ألا ترى للغرب دوراً في هذه التحولات؟
- طبعا هو الغرب من كان يطبق النظرية «فرّق تسد»، وربما دعم الحركات الاسلامية لتقوم في وجه حركات المقاومة العلمانية. ولكن اللافت أن الانظمة العربية، التي تغنّت بالعلمانية، لم تكن يوماً تحترم حريات شعوبها أو تطمح إلى منح هامش أكبر من الديموقراطية. لذلك، كانت ضعيفة. لم تستطع أن تستمرّ في وجه الانقسامات الحادة. أمّا مكافحة ظاهرة التشدّد الديني، فهي بيد العرب والمسلمين أنفسهم. الغرب لا يستطيع أن يفعل شيئاً، حتى إن البعض في الغرب يستغل هذه الظاهرة الهامشية ليشمل الإسلام أجمع فيها ويبني شعبية ديماغوجية على كره الإسلام والعرب من دون أي تمييز.

• أسست جمعية العرب الديموقراطيين. ما هو دورها؟
- أدت هذه الجمعية دوراً أساسياً خلال أزمة الرسوم، لأنها قدمت إلى المجتمع الدنماركي صورة مختلفة ومتنوّعة للمجتمعات العربية والإسلامية ومنعت شملهم تحت معسكر واحد معادٍ للغرب وقيمه. وآمل أن تتابع بهذا الاتجاه لتقارب وتفاعل أكبر بين العرب والدنماركيين.

• انت اليوم المهاجر الناجح. ماذا لو بقي ناصر خضر في سوريا؟
- يفكّر ثم يبتسم ويصرخ: «بندورة!»

«ميزان» الحكومة المقبلة

من المرتقب أن يؤدي ناصر خاضر دور «الميزان» في السياسة الدنماركية، بعدما نجح في الحصول على 2.4 في المئة من الأصوات في الانتخابات التي جرت الثلاثاء الماضي، أي أربعة مقاعد في البرلمان.
وقد تمكّن تحالف الأحزاب الليبرالي والمحافظ و«الشعب» اليميني في الحصول على 89 مقعداً، فيما حصلت المعارضة على 81 مقعداً من أصل 179 هي مقاعد البرلمان، ما يجعل رئيس الوزراء اليميني الحالي اندرس فوغ راسموسن بحاجة إلى دعم حزبي «التحالف الجديد» و«الشعب» لتأمين الغالبية المطلقة.
(د ب أ، أ ف ب)

يجمع الدنماركيون على وصف ناصر خاضر بـ«المهاجر الناجح». ولد في سوريا من أب فلسطيني وأمّ سوريّة. عاش في الريف السوري حتى التاسعة من عمره، بعدئذ انتقل مع والدته بأولادها الخمسة إلى الدنمارك. هو أول نائب مسلم وعربي في البرلمان الدنماركي (دخله عام 2001)، كما أنه مؤسّس حزب «التحالف الجديد»، الذي حاز نجاحاً كبيراً عقب انطلاقه في شهر أيار الماضي، بعدما انشقّ عن الحزب الديموقراطي الاجتماعي