حسن شقراني
«هل ستؤدّي المنافسة على الموارد الناضبة إلى صراعات سياسيّة أو حتّى عسكريّة بين القوى (الدول) العظمى؟ سؤال طرحه «المجلس الوطني للبترول»، وهو مؤسّسة دراسات استشاريّة جيوسياسيّة أميركيّة، في الوقت الذي يتناقص فيه النفط المنتج واحتياطاته وتبحث الدول المنتجة له في زيادة فائدتها منه
في أيّار الماضي، حذّرت وزارة الطاقة الأميركيّة، بإدارة هنري بولسون، من تحوّل جوهري في نمط رسم التاريخ في الولايات المتحدة والعالم: اقتربنا من نهاية عصر النفط ودخلنا عهد «عدم الكفاية». توقّفت الوزارة عن ذكر النفط في رؤيتها لمستقبل
«الطاقة البتروليّة» وصارت تذكر «السوائل»، التي توقعت أنّ يرتفع الطلب العالمي عليها إلى 117.6 ملايين برميل يومياً عام 2030 (بالكاد يغطيه الإنتاج المتوقع أن يبلغ 117.7 ملايين برميل يومياً).
تحوّل يطرح مسألتين: العالم دخل مرحلة منافسة تشتدّ حدّتها (مع ازدياد الطلب وإحساس الدول المصدّرة بـ «بركة» ثروتها المرتفع سعرها باطّراد)، وازدياد حاجة الدول المعتمدة على نفط الخارج إلى حماية مصادرها الخارجيّة، وإن حتّم الأمر (كما كان تاريخياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة بالحد الأدنى) مواجهات عسكريّة.
الولايات المتحدة، المستهلك الأول للنفط (ما يقارب نسبة 45 في المئة من إنتاجه العالمي)، اتّبعت مسار معالجة حاجتها إلى الثروة السوداء على قاعدة «التأمين عسكرياً». وسجّل التاريخ العقد الاستراتيجي بين الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود عام 1945، القائم على حماية السعودية عسكرياً في مقابل معاملة أفضليّة للشركات النفطية الأميركية. كذلك كان الأمر مع الرئيس جيمي كارتر، وعبارته الشهيرة «أميركا ستستخدم أيّ وسائل متاحة، وبينها العسكريّة، لحماية تدفّق نفط الخليج الفارسي»، ومع خلفه رونالد ريغان خلال حرب الخليج، وجورج بوش الأب خلال حرب الخليج الثانية.
غير أنّ المرحلة التي تلت نهاية الحرب العالميّة الثانية حتى بداية الألفيّة الجديدة قد انتهت؛ فبينما كانت واشنطن تعتمد سياسة فصل النفط عن المصالح الاستراتيجيّة لمصدّريه، وبالتالي إرساء توازن السوق (والسياسة) على ربح يرضى به المصدّر (أوبك بمعنى أدقّ) وعلى وفرة تلبية طلب المجتمعات الصناعيّة، تُلاحَظ في هذا العهد الجديد فكرتان: إمكان اختلال التوازن بين العرض والطلب (سيصبح ضخماً بالفعل، بحسب الدراسات، مع حلول عام 2030)، وتوجّس لا يبشّر في شأن نسبة الاحتياطي (يتحدّث «المجلس الوطني للبترول» عن 1.2 تريليون برميل تكفي لـ38 عاماً، إلى جانب الاحتياطي غير المكتشف ويبلغ نحو 1 تريليون برميل، والاحتياطي ذي النوعيّة الردئية ويقارب 1،5 مليون برميل).
أمّا الفكرة الثانية، وهي الأهم، فتفيد أنّ الدول المصدرة للنفط أصبحت تشعر بالفعل بمردود ثروتها، وخصوصاً بعد ارتفاع سعر برميل النفط (الخفيف في بورصة نيويورك) ليلامس الـ100 دولار للبرميل. وإن انخفض سعره في الأيام الأخيرة إلى حدود الـ 94 دولاراً للبرميل (بسبب انخفاض نسبي في الطلب وهدوء نسبي في الشرق الأوسط)، إلّا أنّ التوقّعات تشير، في أفضل تقدير، إلى أنه سيبقى فوق حاجز الـ85 دولاراً بحسب «فلاست إيكونوميك ويكلي».
ولتقليص دائرة البحث في مدى حيويّة أرباح تصدير النفط البالغة 700 مليار دولار سنوياً، بالنسبة إلى الدول المصدّرة، تجدر مقاربة حالات 4 بلدان: السعوديّة، المصدّر الأوّل للنفط، وروسيا (المصدّر الثاني) وإيران (الثالث) وفنزويلا (الثاني في أميركا اللاتينية بعد المكسيك). فلدى تسلّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقاليد الحكم في عام 2000، بعد سنتين من انهيار سعر صرف الروبل (إثر الأزمة الماليّة في جنوب شرق آسيا)، كان الهاجس الأساس للكرملين كيفيّة احتواء استحقاق الديون عام 2003، والتي كانت قيمتها تبلغ نحو 17 مليار دولار. وبالتالي، كيفيّة تدارك أزمة نقديّة ـــــ ماليّة جديدة.
غير أنّ الوقت الراهن، ومع اقتراب بوتين من نهاية ولايته الثانية، يشهد تضاعف حجم الميزانيّة العامّة الفديراليّة 10 مرّات عمّا كان عليه عام 1999، ومراكمة موسكو للاحتياطي الثالث عالمياً من العملات الصعبة والذهب (يبلغ 455 مليار دولار). بل أكثر من ذلك؛ فإنّ الاستخدام الرشيد لعائدات موارد الطاقة (نفط وغاز) مكّن الدولة الروسيّة من إنشاء «صندوق الاستقرار» المالي بقيمة 150 مليار دولار ليقي البلاد وقع أزمات ماليّة مقبلة.
وعليه، فإنّ «الحكومة (الروسيّة) هي أقوى بكثير وأكثر ثقة بنفسها»، بحسب رئيس «معهد سياسات الطاقة» الموسكوفي، فلاديمير ميلوف، وتستطيع، بحسب معادلة القوّة ـــــ المصالح الاستراتيجيّة، أن تفرض وجودها في محيطها، في الحدّ الأدنى، وتواجه سياسات الولايات المتحدة في أوروبا الشرقية، وليس أقلّها منظومة الدفاع الصاروخي في بولندا وتشيكيا ومصالح حلف شمالي الأطلسي وأوروبا الغربيّة.
وبعبارة أخرى، فإنّ ما شهده العالم من ارتفاع في أسعار النفط على مدى السنوات الأربع الأخيرة، ليس مماثلاً بأيّ شكل من الأشكال للصدمات النفطية العابرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، «فالأسعار لم تنخفض وهي مستمرّة بالصعود»، كما يلاحط أستاذ الاقتصاد في جامعة «هارفرد»، كبير الاقتصاديّين السابق في البنك الدولي، كينيث روغوف.
مسار السعوديّة في كيفيّة تعاطيها مع دولاراتها النفطيّة، يندرج في السياق نفسه، وهي حال الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، مجتمعة، والتي ارتفع ناتجها المحلي الإجمالي من 406 مليارات دولار عام 2003 إلى 712 مليار دولار عام 2006، ويتوقّع أن يبلغ 790 مليار دولار خلال العام الجاري و883 مليار دولار في العام المقبل.
من الواضح أن تلك البلدان استفادت (إلى حدّ ما) من تجربة التوظيفات السيّئة خلال الأزمات النفطية (ارتفاع الأسعار)، وتكفي ملاحظة تمدّد الـ «بترو دولارات» إلى مجال الاستثمارات الخارجيّة. وهنا يبرز شراء عملاق الطاقة السعودي للبتروكيميائيّات، «سابك»، لشركة «جي أي بلاستيكس» الأميركيّة بمبلغ 11.6 مليار دولار. ومن بين التوظيفات السعوديّة أيضاً مشروع بناء «مدينة الملك عبد الله الاقتصاديّة»، التي ستكلّف، بحسب شركة «إعمار» للعقارات المتمركزة في دبي، 27 مليار دولار.
أمّا البحث في جدليّة علاقة فنزويلا وإيران وثروتيهما النفطيتين بعالم «عدم الكفاية النفطيّة» وبقائده، الولايات المتحدة، فيتحدّد بمعطى بسيط؛ الرئيس محمود أحمدي نجاد يريد طاقة نووية ويستطيع المفاوضة قدر ما يشاء (حسبما يبدو حتّى الآن) بسبب الأسعار المرتفعة لنفطه. أما نظيره في كاراكاس، هوغو تشافيز، محرك الانتفاضة اليساريّة في أميركا اللاتينيّة، فيريد إعادة صياغة قواعد اللعبة (طرح في قمة أيبيريا ـــــ البلدان اللاتينيّة في سانتياغو الأسبوع الماضي إنشاء شراكة مع «رفاقه» لمساعدة البلدان التي لا تستطيع تحمّل برميل النفط عند الـ100 دولار!).
التعاطي مع الثروات النفطية في البلاد النامية لم يعد غير محكوم بمصالحها الاستراتيجية، فهل تتوافق مصالح المنتجين مع مصالح المستهلكين في المستقبل، أم أن عهد «عدم الكفاية» سيقلب الموازين رأساً على عقب لمصلحة الضعيف تاريخياً؟ السؤال برسم مستقبل سيبقى فيه النفط المورد الأساسي للطاقة، والحماية العسكرية (الحروب) الطريقة الوحيدة لضمان «حقّ» دول شمال الكوكب فيه.