strong>طوني صغبيني
«التنين الصيني يكشّر عن أنيابه»، تعبير يصحّ لوصف مضمون التقارير الأميركية في السنوات الأخيرة، التي استبدلت «التنبيه الاقتصادي اللطيف» لبكين، باتهام مباشر يحذّر من «عسكرة» عملاق آسيا

بحسب السياسة الصينية المعلنة، لا تزال التوجهات العسكرية والخارجية لبكين تسترشد باستراتيجية الـ 24 خاصيّة، التي أعلنها الرئيس دينغ كسياو بينغ أوائل التسعينيات، وملخصها «راقب بصمت، أمّن موقعنا، تعامل مع القضايا بهدوء، اخف قدراتنا واشتر الوقت، خفف من الظهور قدر المستطاع، ولا تدّع القيادة (الإقليمية أو العالمية) أبداً».
لكنّ هذه النقاط هي محلّ جدل واسع في الوقت الراهن بين قادة الصين أنفسهم، ولا سيما في ما يتعلق بتعزيز الزعامة الدولية، بالإضافة إلى أن التصرفات اليومية لبلد المليار ونصف مليار نسمة تشير إلى أن تعديلاً ما طرأ عليها في السنتين الأخيرتين.
وتشير التقارير الأميركية إلى أنه رغم تمسّك بكين بسياسة تجنّب الصراعات، إلا أن هناك توجّهاً جديداً تُرجم في المجال العسكري، بحيث بدأت عملية تحويل «جيش الشعب الصيني» من جيش دولة إلى جيش إقليمي، ليكون دعامة صلبة للقوة الاقتصادية والسياسية الصاعدة.
تاريخياً، كوّن المشاة العمود الفقري في الجيش الصيني لدوره في حراسة النظام الشيوعي تجاه التهديدات الداخلية، في ظلّ الحضور الدائم لـ«هاجس تايوان»، النقيض الأيديولوجي والسياسي وحصان طروادة الأميركي في شرقي آسيا.
أما اليوم، فيبدو الحكم أكثر ارتياحاً في الداخل بعد عقود من الإنجازات الاقتصادية المنقطعة النظير، بما يتيح له مدّ نظره إلى ما وراء الحدود. يعزز ذلك الحاجة المتزايدة إلى الطاقة والموارد والأسواق الناتجة من الانفجار الاقتصادي، رافعاً مستوى القلق لدى وزارة الدفاع الصينية، التي حذرت العام الماضي من أن «المسائل الأمنية المرتبطة بالطاقة والموارد والتمويل والمعلومات وطرق الشحن الدولية تتصاعد».
ومنذ التسعينيات، بدأ التحوّل في عقيدة القتال الصينية من الدفاعية إلى الهجومية، مع تضمينها مفهوم الحرب الاستباقية، حيث أخذ رؤساء الأركان يتحدثون عن أن «الدفاع الحيوي يقوم أساسه على أخذ المبادرة والقضاء على العدو قبل أن يجمع قواه».
وفي مطلع العام الماضي، أعادت بكين النظر في «الخطوط العامة للاستراتيجية العسكرية»، التي وضعتها عام 1993، وأطلقت رسمياً عملية تحويل الجيش من قوة «مصممة لخوض حروب استنزاف طويلة على أراضي دولتها» إلى جيش قادر على «خوض نزاعات كبيرة وربحها، خلال وقت قصير، في مواجهة خصوم مجهزين بأحدث التكنولوجيا»، وفق ما جاء في تقرير لوزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس قدمه للكونغرس أخيراً.
وفيما بقيت مسألة تايوان، هدفاً أساسياً في الاستراتيجية العسكرية الجديدة، بدأ الجيش تكوين قوّة «رادعة» عبر تطوير قدراته على توجيه ضربات بعيدة المدى وخوض معارك على الحدود الإقليمية، معزّزاً فرقه بصواريخ قصيرة المدى، بعدما طوّر صواريخه البالستية الاستراتيجية، ونقل دفاعه الجوي من مبدأ تأمين النقاط العسكرية والصناعية والسياسية الأساسية، إلى تغطية كاملة للأرض الصينية وشنّ هجمات معاكسة على قواعد الخصم.
كما تعززت القوات البرية بناقلات الجند والمدفعية والدبابات الجديدة. وطوّر الجيش قدراته المعلوماتية، منتجاً مفاهيم حربية جديدة، كهدف تحقيق «السيطرة الإلكترو ـــــ مغناطيسية» على العدو، وفرض «حصار معلوماتي» عليه.
كما خطت الصين خطوات واسعة في المجال الفضائي، حيث كانت أبرز تجربة في هذا المجال اختبار صاروخ مضاد للأقمار الاصطناعية بنجاح في كانون الثاني من العام الجاري.
ولعلّ التطور في القوة البحرية هو الأخطر على موازين القوى في المحيط الهادئ، إذ تم تطوير وشراء الغواصات والسفن الاعتراضية والصواريخ المضادة للسفن والغواصات، وبوشر العمل على تصاميم حاملة للطائرات، توقعّت الاستخبارات الأميركية وضعها في الخدمة بين عامي 2011 و2015.
أما أكثر ما يقلق واشنطن فهو من دون شكّ مفهوم «خيار اللاحرب» أو «العمليات غير الحربية»، الذي أعلن الجيش اعتماده. ويتضمن المفهوم إعطاء القوات الصينية الضوء الأخضر للقيام بضربات جوية سريعة وتنفيذ اغتيالات وعمليات تخريب في أراضي الخصم، من دون إعلان حرب من بكين، وهو مشابه للأسلوب الذي تعتمده القوات الأميركية الخاصة في عملها في الخارج.
ولم تقتصر النقلة على تطوير الجيش، بل تعزز أيضاً التعاون الصيني ـــــ الروسي، والتعاون العسكري بين دول منظمة شانغهاي التي أقامت منذ عام 2005 مناورات واسعة في آسيا الوسطى.
أمام هذه التطورات العسكرية، التي تتم «أسرع من التقديرات الأميركية وتدهش الحكومة والمحللين»، كما قال تقرير لجنة العلاقات الأميركية ـــــ الصينية في الكونغرس الأسبوع الماضي، بدأ البنتاغون منذ عام 2005 بدق ناقوس الخطر، محذراً من أن العملاق الأصفر «يملك القدرة الأكبر (عالمياً) لمنافسة الولايات المتحدة في المجال العسكري»، بما قد ينهي مع الوقت «التفوق الأميركي العسكري التقليدي». وكان قد نبّه في تقرير آخر هذا العام من أن «تطوّر القدرات الصينية الاستراتيجية له ارتدادات أبعد بكثير من منطقة الهادئ الآسيوية».
ورغم إشارة البنتاغون إلى أن «وجهة استعمال القوة العسكرية الحالية والمستقبلية لبكين تبقى غير معروفة»، في ظلّ غياب التهديدات المباشرة من دول أخرى، يبدو أن الخوف الأميركي هو من أن تكون الخطوات الصينية مقدمة للتدخل في النزاعات الإقليمية، ولاسيما تلك الدائرة حول منابع النفط، حيث ستنتقل الصين من المركز الثالث إلى الأول على لائحة أكبر مستوردي الذهب الأسود في العالم خلال أقل من عقدين.
ومن المرجح أن واشنطن قرأت جيداً الإشارة الأخيرة من آسيا، حيث أعلن النظام الشيوعي للمرة الأولى في تاريخه رغبته في مشاركة بلاده في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في إقليم دارفور السوداني الغني بالنفط.