باريس ـ بسّام الطيارة
عُلِّقَت لوحات حديثة على مداخل محطّات قطارات باريس
«الخط ١٤»، كُتِب عليها بخطّ جميل: «يرحّب العاملون على الخط ١٤ بالمسافرين». قد تبدو هذه التحيّة فكاهيّة في خضمّ الإضراب القاسي الذي يعصف بفرنسا منذ أسبوع ونيّف، والذي تعانيه باريس خصوصاً


تدخل إلى أيّ محطّة من «الخط ١٤»، فلا تجد زحمة ولا تدافعاً ولا عراكاً من أجل الصعود في القطار، كما يحصل في باقي محطّات مترو باريس. وتعلن شاشات الاستعلامات عن مواعيد القطارات بشكل طبيعي، وكأنّنا في بلد آخر، فلا تشنُّج على وجوه المسافرين ولا قلق من الوصول المتأخّر إلى العمل أو اللحاق بساعات خروج الأولاد من المدرسة.
حتى أنّ الحديث عن الإضرابات والتململ، وهي «رياضة وطنية فرنسية»، غائبة عن أحاديث المسافرين.
داخل عربات المترو الحديثة، تجد مقاعد مريحة وجميلة الألوان، إضافة إلى أنها بخلاف جميع عربات الخطوط الأخرى، نظيفة: لا كتابات ورسوم عليها، ولا تحمل آثار التشريط والتخريب، ولا آثار «إمعان الشباب بسكاكينهم في تسجيل مرورهم بها». ومن فترة إلى أخرى، يتناهى إلى الركاب صوت أنثوي جميل يعلن بخمس لغات أسماء المحطّات، ويعلن لهم في بعض الأحيان حالة الطقس أو يعدّد المخارج المتعدّدة الموجودة في المحطّة.
أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو أنّ لا إضراب في هذه المحطّة، أو أنّها ليست في فرنسا اليوم. إلّا أنّ الأمر مختلف تماماً. فالإضراب لا يزال قاسياً، رغم تراجع عدد المضربين، لكنّه غائب عن محطّات «الخط ١٤» فقط، لسبب بسيط هو أنّ هذا الخطّ هو أوّل خط «مترو أوتوماتيكي» يعمل من دون تدخّل أي عامل إنساني: لا سائق فيه. الأبواب تُفتَح أوتوماتيكياً. رصيف المحطّات محميّ بحاجز زجاجي يغلق أبوابه تلقائياً عند إقلاع المترو. وعلى مدخل المحطّة يتكفّل «روبوت» ببيع التذاكر و«روبوت» آخر يؤشّر عليها عند الدخول و«يبتلعها» عند الخروج. إنّ «الخط ١٤» هو أوّل خط يشير إلى ما يمكن أن تكون عليه محطّات الغد.
إلا أنّ «الخطّ ١٤» يشير بطريقة غير مباشرة إلى «هواجس المضربين» غير المعلَنة. فدخول الرجل الآلي والمكننة في حياة المؤسّسات، يرميان في حقول البطالة آلاف العمّال سنويّاً. وهذه الهواجس التي لا تعبّر عنها النقابات الموجودة بطريقة أو بأخرى، هي وراء كلّ المطالب العمّالية، إلا أنّه لا أحد يستطيع أن يتناول «مسألة حلول المكننة محلّ الإنسان» في مجالات كثيرة من قطاعات العمل، حتى لا يُتَّهم بأنه «معادٍ للتحديث» وللتكنولوجيا الجديدة.
إلّا أنّ لا أحد يقول إنّ هذه التكنولوجيا التي تلتهم «فرص عمل العمّال»، وتكثّف الشركات من اللجوء إليها سعياً لربح إضافي، لا تؤمّن في المقابل «حياة أفضل للإنسان»، مع تأمينها لأرباح مضاعفة للشركات الكبرى، بدل أن تخدم المجتمع بخاصة لتعميم المنفعة.
والإصلاحات التي اعتمدتها الحكومة تلاقي نوعاً ما هذا التوجّه القاضي بسحق فرص العمل لفتح المجالات عبر المكننة. وترى فيها شريحة واسعة من المواطنين الفرنسيّين «توجّهاً يعتمد على الفلسفة الاقتصادية البحتة»، ويهمل المقاربة الاجتماعية الشاملة. والأدلّة كثيرة في أفواه المضربين من كافة الشرائح: فالجامعات التي تستعدّ لإضرابات جديدة ترفض فكرة «استقلالية الجامعة الماليّة»، التي تعني رفع يد الدولة عنها وتسليمها إلى «حقل المربحية»، وبالتالي تخصيصها بطريقة غير مباشرة.
وفي الإصلاحات الاجتماعية المقترحة للأنظمة الخاصّة في شركات النقل والسكك الحديدية ولدى الموظّفين، فإنّ إطالة مدّة العمل من ٣٧ سنة ونصف إلى أربعين سنة هي، نوعاً ما، إطالة مرحلة الانتظار لليد العاملة الشابة المقبلة إلى سوق العمل، وفي الوقت نفسه، فإنّ عدد الموظّفين الوافدين كلّ عام، لا يعادل عدد الذاهبين إلى التقاعد، بسبب حلول المكننة في مجالات كثيرة محلّ الإنسان العامل.
قد يسعد الفرنسيّون بوجود «الخط ١٤» اليوم، والذي خفّف عنهم مشقّة السير على الأقدام للذهاب إلى العمل. إلا أنّ هذه الميكانيكية تستعدّ لتحلّ محل عدد كبير منهم في مستقبل غير بعيد. فابتسامة اليوم أمام «الخط ١٤» هي مثل ابتسامة الضحيّة أمام جلادها.