باريس ــ بسّام الطيارة
انتهت أمس رسمياً جولة الإضرابات القاسية التي عصفت بقطاع المواصلات الفرنسية، وبدأت الحياة تدبّ بتردّد في شرايين النقل في مترو الأنفاق وعلى الخطوط الحديدية، كما عادت الحافلات إلى شوارع المدن. إلّا أنه رغم هذا، فإنّ الخوف من فشل المفاوضات بين الأفرقاء المعنيّين موجود بقوّة، وخصوصاً أنّ الفريق الحكومي يعلن «بتواضع النجاح في كسر الإضراب».
وعشيّة سفر الرئيس نيكولا ساركوزي إلى الصين في زيارة رسميّة، يتّفق المراقبون على أنّه «انتصر في الجولة الثانية» من معركته مع النقابات. غير أنّ الجديد هو ابتعاد ساركوزي عن «التباهي بانتصاره»، ما دفع بعض الصحف إلى الحديث «عن تواضع الرئيس في انتصاره»، حسبما صرّح أحد المقرّبين منه قائلاً: «إنّه انتصار لفرنسا يدلّ على حتميّة تكملة الإصلاحات الضرورية».
وقال ساركوزي أمس، خلال كلمة في الإليزيه: «لقد وعدت بتنفيذ هذا الإصلاح، وأنا أفي بوعدي»، مشيراً إلى أنّ هذا الإصلاح، الذي سيحرم حوالى 500 ألف عامل في قطاعي السكك الحديد والطاقة من الحصول على بعض امتيازات التقاعد، «لن يتأجّل أكثر من ذلك».
«تفتّت الجسم النقابي» سهّل الخروج من الأزمة. وتأييد الإضراب تراجع لدى شريحة واسعة من القاعدة النقابية حالما أبدت الحكومة قبولها بالدخول في مفاوضات، وخصوصاً أنّها لم تعتبر التصويت على متابعة الإضراب (الذي صوّتت عليه أقليّة «متمرّدة وراديكالية» حسبما وصفها بعض النقابيين) تحدياً أو كسراً للاتفاقيّات مع زعماء النقابات الكبرى.
وقد أسهمت هذه الاستراتيجية التي اعتمدت على امتصاص انعكاسات الإضراب والإفادة الإعلاميّة القصوى من تراجع عدد المضربين، في دفع النواة المتصلّبة إلى القبول بإنهاء الإضراب، وخصوصاً أنّ ١١ في المئة فقط صوّتوا أوّل من أمس للإضراب في أيّامه الأخيرة.
الإضراب طرح علامات استفهام قويّة عن «الترابط بين القاعدة النقابيّة والزعماء النقابيين». ترابط يشير إلى تفسخ سمح للحكومة باللعب على التناقضات، وأبرزها تذبذب المواقف بين القاعدة العماليّة ومفاوضي النقابات من جهة، وبين بعض النقابات المؤيّدة للإصلاحات التي أقرتها الحكومة من جهة أخرى.
والدخول في تفاصيل الاتّفاق المبدئي الذي يؤطّر المفاوضات بطريقة ثلاثيّة بين النقابات العمّالية وإدارات المرافق العامّة المعنيّة بحضور ممثّلين عن الحكومة، يدلّ على أنّ الحكومة قد تراجعت في بعض الميادين التي لا تشدّد عليها تصريحات المسؤولين. وقد يفسر هذا «بعض التململ» الذي ظهر لدى نوّاب الغالبيّة التي كانت تطمح إلى «معركة تاتشرية ساحقة» (نسبة إلى رئيس الوزراء البريطانيّة السابقة ماغريت تاتشر) تنهي «سيطرة بعض النقابات على مستقبل الضمان الاجتماعي» وتفتح الطريق أمام سلسلة الإصلاحات الليبرالية التي وعد بها ساركوزي خلال الحملة الانتخابية. إلّا أنّ تعليمات الإليزيه كانت، كما صرّح أكثر من مسؤول مقرّب من الملف المفاوضات، تحثّ على إيجاد آليّة خروج من الحالة التصادميّة، من أجل تخفيف الخسائر الاقتصادية الناتجة من 10 أيام صعبة.
وتكتسب الخسائر الاقتصاديّة حدّتها، بعدما بدأت حركة إضراب الطلّاب بالتمدّد من الجامعات إلى المدارس الثانوية؛ فقد سجّل أمس تحرك أكثر من ثانويّة وخروجها بتظاهرات في شوارع باريس، ما أسهم في زيادة أزمة الازدحامات في العاصمة وبعض المدن. ويرى مراقبون أن تلك الحركة الطلابيّة لا تزال في بدايتها، وأنّها قابلة للتطوّر في الأيام المقبلة، وخصوصاً أنّ وزيرة الجامعات والتعليم العالي، فاليري بيكريس، ترفض بأيّ شكل من الأشكال التراجع عن القانون الجديد الذي يثير حنق الطلاب وعدد من الأساتذة الذين يرون فيه بداية لعمليّة تخصيص التعليم العالي.
وبخلاف إضراب عمال النقل المشترك وسكك الحديد الذين يحتجّون على نظام إصلاح يمسّ «نظامهم المتميّز»، وهو ما أسهم في إضعاف موقفهم أمام الرأي العام الفرنسي، فإنّ مطالب الطلبة المتعلّقة بالجامعات يمكن أن تجد آذاناً صاغية من المواطنين الفرنسيّين الذين تشير كل استطلاعات الرأي إلى أنّهم يفخرون بنظام تعليمهم المجّاني.