strong>حسام كنفاني
عشية المؤتمر الدولي للسلام في أنابوليس اليوم، يمكن تمييز مجموعة من الرابحين والخاسرين من مجرد انعقاده أو المشاركة فيه، بغض النظر عن أي نتائج قد تخرج إلى العلن خلال الساعات الأربع والعشرين المقبلة، سواء لجهة نجاح أو فشل الغاية المعلنة المنعقد من أجلها وهي «السلام الفلسطيني ـــ الإسرائيلي»

بين أكثر من أربعين دولة ومنظمة مدعوّة للمشاركة في أعمال «أنابوليس»، فإن مؤشرات الربح والخاسرة لا تعطي هاتين الصفتين إلا لأكثرية صغيرة من الأطراف المعنية مباشرة بقضية الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي أو معنية باستعادة دورها على الساحة الشرق أوسطية.

إسرائيل في الطليعةحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير لم يحظ بهذه «الميزة» إبان مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، رغم أن المؤتمر حينها كان مخصّصاً للسلام العادل والشامل وأرسى مبدأ «الأرض مقابل السلام»، ولم يكن حكراً على الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي، كما هي حال «أنابوليس».
وإذا كان مؤتمر مدريد أسّس لاتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية و«وادي عربة» مع الأردن، ودفع إسرائيل إلى «التنازل» عن بعض الأراضي التي اغتصبتها خلال عدوان حزيران 1967، فإن أولمرت لن يكلّف نفسه تقديم أي مقابل لجلوسه إلى طاولة التفاوض مع العرب في أنابوليس.
فمؤتمر اليوم، الذي كان من المقرّر أن يضع إطاراً لإنجاز الدولة الفلسطينية، نجح فريق أولمرت التفاوضي في إفراغه من مضمونه وتحويله إلى مجرد انطلاقة لمسار طويل الأمد من التفاوض مع السلطة الفلسطينية قد ينتهي مع نهاية ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش، بانتظار بداية جديدة يؤمنها رئيس آخر.
وبالتالي، يتوجه أولمرت إلى أنابوليس بجعبة خاوية، من المرتقب أن يملأها بصور المصافحات والابتسامات، من دون أن يقدّم أي «تنازلات»؛ فالاستيطان سيبقى على حاله، والتجميد الذي أعلنه أخيراً لم يكن إلا «مرحلياً»، ولا يشمل ما يسمّى «النمو الطبيعي» للمستوطنات. وهو لم ولن يقدّم أي تعهد بالتخلي عن أي من المستوطنات الكبيرة في «يهودا والسامرة» على اعتبار أن هذه المسألة تحددها مفاوضات الوضع النهائي، التي لا يزال من المبكر الوصول إليها. إذ إن «الوضع النهائي»، بحسب الموقف الرسمي الإسرائيلي، بالاتفاق مع السلطة الفلسطينية، مرتبط بتطبيق المرحلة الأولى من خطة «خريطة الطريق»، الخاضع حكماً لتقييم المزاج الإسرائيلي، وبالتالي فليس مطروحاً اليوم على طاولة أنابوليس، القدس ولا اللاجئون ولا المياه ولا الحدود.
وبناءً عليه لا شيء لأولمرت ليخسره، بل على العكس تماماً، من الممكن أن يعود إلى إسرائيل باعتراف فلسطيني، وربما عربي، بـ«يهودية الدولة»، مع ما يعنيه ذلك من ترسيخ لأمر واقع يمكن أن ينعكس على أوضاع فلسطينيي 48.

واشنطن واختراق قائمة الفشل

وكما هي حال إسرائيل، من الممكن تصنيف الولايات المتحدة أيضاً في خانة الرابحين من المؤتمر الدولي. فإضافة إلى أنها صاحبة الدعوة إلى أنابوليس، ترى واشنطن في «احتفال التطبيع» هذا بارقة نجاح في سجل الفشل الطويل في الشرق الأوسط.
فمع تعقّد الوضع الأميركي في العراق وفشل استراتيجيته في أفغانستان وتأزّم مرحلة المواجهة النووية مع إيران، كان لا بد للإدارة الأميركية من تسجيل نقطة ما لحسابها في المنطقة، تكون انطلاقة ربما لمرحلة فشل آخر.
وهكذا، بعد ثماني سنوات من الجمود في العملية السلمية، الذي شاركت فيه الإدارة الأميركية عبر سياسات دعمها المطلق لإسرائيل، نجحت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش في تصوير نفسها على أنها صاحبة الفضل في بث الروح في مسار السلام الشرق أوسطي، حتى لو لم يؤدّ هذا المؤتمر إلى أي اختراق يذكر.
وتدرك الإدارة الأميركية جيداً أنها لا تحتاج إلى أكثر من صور الابتسامات والمصافحات في أكبر محفل يجمع إسرائيل والعرب لتلميع صورتها الداخلية. وإعلان بوش الدائم التمسّك برؤيته لحل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية لن يجد ترجمته على أرض الواقع في ولاية الرئيس الأميركي، وهو بالتالي لا يريد تكرار تجربة سلفه بيل كلينتون الذي دفع منذ بداية ولايته إلى تسريع ملف التسوية في الشرق الأوسط وانتهى إلى «رئيس فاشل»، على حد تعبير كلينتون نفسه حين حمّل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مسؤولية إخفاق مفاوضات كامب ديفيد، وقال له «لقد جعلت مني رئيساً فاشلاً».
ورغم الإجماع على اعتبار بوش «فاشلاً» منذ بداية عهده، إلا أنه يدرك أن الدفع إلى تسوية سلمية في فترة زمنية قصيرة نسبياً سيزيد من فشله. لذلك، اكتفى على ما يبدو بهذا الجمع الإعلامي الاحتفالي، ولا ضير في أن ينتهي بأي اختراق ولو بسيطاً في أي مسار سلمي، ما دامت الإدارة الأميركية حققت مبتغاها «التطبيعي» ولم تلزم نفسها بأي سقف، لا زمني ولا إجرائي.
والأهم من ذلك كله، أعطت الولايات المتحدة مشروعها في المنطقة روحاً جديدة للمضي قدماً إلى ما هو أبعد من فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان.

سوريا... إعادة الاعتبار«لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا»، هذه المقولة تكرّست أيضاً وأيضاً خلال الفترة الماضية، مع تحول دمشق إلى محجّ لوفود عربية ودولية، محركها الأساس تأمين غطاء سوريّ للمؤتمر.
ولم يتوقف هاتف الرئيس السوري بشار الأسد عن الرنين، مع ما يعني ذلك من كسر لمحاولات العزلة التي كانت تسعى الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين والعرب إلى فرضها على السلطات السورية. لا شك في أن الملفين اللبناني والعراقي أسهما بشغل شبكة الاتصالات السورية.
هذا المسار من الاتصالات والزيارات أسهم بإعادة الاعتبار إلى وضع دمشق قطباً أساسياً في المنطقة، وأثبت فشل سياسة العزل التي اتبعتها الإدارة الأميركية منذ بداية عهد الرئيس الأميركي جورج بوش.
حتى واشنطن أقرّت بمثل هذا الفشل عبر تفويض أكثر من طرف دولي وعربي الاتصال بدمشق، إضافة إلى لقاء وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ونظيرها السوري وليد المعلم في اسطنبول، لتأمين المشاركة السورية في المؤتمر الدولي، على اعتبار أنها تؤمّن وجود أكبر قدر من الدول العربية على الطاولة نفسها مع المسؤولين الإسرائيليين.
ولتحقيق هذه الغاية، كان لا بد من «جزرة» أميركية لسوريا، التي نجحت في فرض الجولان على طاولة المباحثات، وإن بصيغة مواربة عبر جلسة «السلام الشامل»، إضافة إلى وعد بمؤتمر خاص للجولان مقرر في موسكو في مرحلة لاحقة.
ويبدو أن سوريا تعتقد بأن ليس لديها شيء تخسره من المشاركة في أنابوليس. وهي حافظت، رغم الضغط العربي والدولي، على مسافة معينة عبر المشاركة بنائب وزير الخارجية فيصل المقداد لاستشفاف ما يمكن أن يُطرح والجديّة الأميركية في التعاطي مع المطالب السورية، محافظة في الوقت نفسه على أوراق قوة بيدها، سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق.
يبقى انتظار ما سيُعرض على دمشق خلال المؤتمر، الذي تريده تكريساً لها «كممر لا غنى عنه لأي قوة تريد أن تمارس نفوذاً في المنطقة»، كما قال الرئيس السوري أكثر من مرة. طبيعة هذا العرض ومضمونه وآلياته لا بد من أن تكون لها انعكاسات جمّة، ستتجاوز حتماً البعد السوري.

روسيا... صحوة الدب

من الباب السوري كانت العودة الروسية إلى الشرق الأوسط كلاعب أساس في عملية السلام الشرق أوسطية. فإضافة إلى حركة المبعوثين الروس في سوريا وفلسطين وإسرائيل، يمثّل احتضان موسكو مؤتمراً مكملاً حول السلام العربي الإسرائيلي اعترافاً أميركياً بمركزية الدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط.

الخاسرون... السلطة أولاً

قد يكون العنوان الأبرز للمؤتمر الدولي هو السلام الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي، إلا أن مسار الأحداث التي سبقت التئام جلساته يدلّ على أن فلسطين ستكون على هامش النتائج المرتقبة للمؤتمر، ولا سيما أن ما سيخرج به في في ما خص القضية الفلسطيني قد تمّ تحديده سلفاً وهو «انطلاقة لعملية التفاوض»، ما يعني أن السقف الذي وضعه الفلسطيني محمود عباس منذ بداية الحديث عن المؤتمر الدولي انخفض إلى أدنى مستوياته.
كان الحديث الفلسطيني في البداية عن اتفاق يعرض للمصادقة في القمة المرتقبة، وما لبث عن تراجع إلى «اتفاق إطار»، ثم «بيان مشترك». إلى أن وصل الوفد الفلسطيني إلى أنابوليس خالي الوفاض، إذ لم ينجح في تحقيق أي من تطلعاته إلا «إحياء العملية السلمية».
في المقابل، فإن أبو مازن قدّم الكثير لإرضاء الطرفين الإسرائيلي والأميركي منذ الإعلان عن المؤتمر الدولي، الذي وصل إليه الفلسطينيون مشرذمين؛ فخطيئة «حماس» في قطاع غزة لا يمكن أن تتحمّلها الحركة وحدها، بل هي أتت تتويجاً لمسار طويل من سياسة التناقضات التي اختطتها السلطة الفلسطينية في التعاطي مع حكم حركة «حماس».
كما أن الرئيس الفلسطيني قطع على نفسه الكثير من التعهدات بلا مقابل، سواء لجهة الحملة على فصائل المقاومة في الضفة الغربية أو العمل الدؤوب في الضفة أيضاً على منع العمليات العسكرية ضد القوات الإسرائيلية. وبالتالي، فهو حشر نفسه في زاوية «التسوية السلمية» مسقطاً أي خيار آخر في التعاطي مع الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية.
وبالتالي، وضع عباس نفسه في سياق «مواجهة استراتيجيات» مع حركة «حماس»، معوّلاً على نجاح رهانه على عملية السلام لإثبات سقوط خيار الحركة الإسلامية، مدركاً أن الفشل، الذي يلوح في الأفق، ينذر بموجة دموية داخلية جديدة في الأراضي الفلسطينية.

«حماس»... تعميق العزلة

يمكن أيضاً إدراج الحركة الإسلامية في سياق الخاسرين من المؤتمر الدولي؛ فمراقبة مسار سياسة الحركة منذ تسلمها السلطة في كانون الثاني من العام الماضي تظهر خط سير براغماتياً في تعاطيها مع ملف العلاقة مع إسرائيل، إلا أنه أيضاً لم يثمر إلا تشرذماً فلسطينياً وعزلة وحصاراً وتجويعاً لقطاع غزة.
ولعل أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذا السياق، تلميح المستشار السياسي لرئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية، أحمد يوسف، إلى تفكير الحركة في التوجه إلى أنابوليس إذا وجهت إليها الدعوة. كما أن المتحدث السابق باسم الحكومة إسماعيل رضوان أشار إلى قبول الحركة «التفاوض مع إسرائيل، إذا كان ذلك يخدم المصلحة الفلسطينية».
ورغم خروج أصوات من داخل الحركة تعارض ما أعلنه يوسف ورضوان، إلا أنه لا يعدو كونه صراع أجنحة داخلها أو تقاسم أدوار بين أطرافها لجس النبض الدولي من براغماتية الحركة، والذي تجلى منذ البداية في الإعلان غير المباشر عن الاعتراف بإسرائيل «كأمر واقع»، كما قال رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشغل في إحدى مقابلاته الصحافية السابقة.
وليس خافياً عمل «حماس» منذ تسلمها السلطة على هدنة غير معلنة مع إسرائيل، لم تخرقها إلا مرات قليلة، لتلبّي بشكل غير مباشر بعض الشروط الدولية المطلوبة للاعتراف بحكمها. إلا أن الغرب لم يتلقف الإشارات «الحمساوية»، وهو ما انتقده وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل حين لمّح في أحد مؤتمراته الصحافية إلى أن «حماس» كان من الممكن أن تتحوّل إلى «فتح» أخرى لو تعامل معها الغرب من البداية.
اليوم تترقب «حماس» بقلق ما يمكن أن ينتج عن المؤتمر الدولي، ولا سيما أن أولمرت رفع شعار «إنهاء الإرهاب في غزة» شرطاً مسبقاً للتفاوض، وبالتالي فمن الممكن أن يخرج أنابوليس، بأحد قراراته غير المعلنة، بضوء أخضر أميركي دولي عربي «لإعادة غزة إلى حضن السلطة».

السعودية... تطبيع مجانيإلا أن كل ما سعت إليه السعودية تبخّر، وحتى الشروط التي وضعها الفيصل لمشاركة بلاده في المؤتمر الدولي لم تتحقق، فلا القضايا الجوهرية هي اليوم على جدول الأعمال، ولا الاستيطان الإسرائيلي توقف ولا جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية توقف عن قضم الأراضي الفلسطينية.
أمام هذه الوقائع، قد يكون السؤال الجوهري ما هي الغاية والمصلحة السعودية المباشرة من المشاركة في أنابوليس غير تسجيل سابقة في تاريخ المملكة الإسلامية لجهة جلوسها العلني على طاولة تطبيع مع الطرف الإسرائيلي، وبالتالي الالتحاق بالركب المصري والأردني الذي بات دوره شبه مهمش على الساحة العربية.
لائحة المستفيدين والمغبونين من المؤتمر الدولي باتت مكتملة منذ ما قبل الانعقاد، والأيام التي ستلي المؤتمر ستظهر صعود أدوار لدول وأفول لأخرى، وقد ترسم ملامح تحولات في المشهد الإقليمي إلى الأفضل أو الأسوأ.