القاهرة ـ الأخبار
هوّة كبيرة تفصل بين الشعب المصري والنظام الحاكم. ملاحظة ليست جديدة، غير أنّ اللافت أنّ هذه الهوّة تتّسع يومياً لتنفجر عند الاستحقاقات الكبرى

«no U S A» كان هذا الشعار الذي استقبل به طلّاب جامعة المنصورة السفير الأميركي لدى مصر فرانسيس ريتشار دوني، الذي اضطرّ أوّل من أمس إلى أن يطلب من سائقه أن يغادر فوراً مقرّ الجامعة، في وقت كان فيه طلّاب جامعة القاهرة، وعلى بعد خطوات من السفارة الإسرائيليّة، في اعتصام مفتوح أمام قبّة الجامعة تحت شعار: «مؤتمر أنابوليس: هل توافق على بيع فلسطين؟».
التظاهرات استمرّت في الإيقاع نفسه على مدى يومين، وأُضيفت إليها وقفة احتجاجية للمحامين وسط القاهرة، كان ازدحامها فوق المعتاد بسبب كثرة الحوادث على الطرق الدائرية. لكنّ الانهماك الأساسي تركّز في النميمة حول «الحكومة الجديدة» التي انتشرت شائعة أمس، مفادها أنّ المشاورات حولها تجري حالياً بعد تكليف الدكتور فاروق العقدة رئاسة المصرف المركزي.
أنابوليس بالنسبة لشرائح كبيرة من المصريّين كلمة «غامضة» أو «اسم الدواء الذي سيُعطى للفلسطينيّين لكي ينسوا فلسطين»، على حدّ تعبير أحد سائقي سيارات الأجرة.
لكنّ موقف السائق ليس حالة مصرية عامّة، فالبائع في محلّ السجائر كان رأيه أنّ أنابوليس هو «الخطوة الأخيرة للسلام الذي بدأه (الرئيس الأسبق أنور) السادات الذي يعرفون قيمته اليوم».
شخص آخر كانت لامبالاته كاملة حيال المؤتمر: «لا أعرف لماذا تحشر مصر نفسها في القضية، ونحن الذين دفعنا الثمن دائماً».
المفاجأة فجّرها أمس رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المصري مصطفى الفقي الذي وصف المؤتمر بأنه «كلام فارغ وليس له أي دور سوى العلاقات العامّة»، مشيراً إلى قناعته بأنه سيكون «لمصلحة إسرائيل».
هكذا تسيطر اللا مبالاة على قسم كبير من الشارع المصري. وتبدو الحركة البطيئة في الشوارع مناسبة للردّ على دفاع الرئاسة عن قرارها بالمشاركة في المؤتمر وسط معارضة من جماعة «الإخوان المسلمين»، أقوى تنظيمات المعارضة شعبياً.
ففي بلد يشكو شعبه من بطالة مزمنة وارتفاع مستمرّ في الأسعار، وتدنّي مستوى الخدمات والبنية الأساسية رغم تفاؤل الحزب الوطني الحاكم، يصعب أن يلتفت أحد إلى مؤتمر دولي يُعقد خارج الحدود ويناقش ملفاً تاريخياً بالنسبة للمصريين، كما يقول الدكتور علي السيد، خبير العلوم الاجتماعية.
وخلافاً لما كانت عليه الحال حتّى نهاية السبعينيات، فإنّ الكثير من المصريّين باتوا ينظرون إلى القضية الفلسطينية على أنّها ملفّ معقَّد، ويرون أنّ فرص تحقيق سلام شامل وعادل في المنطقة، باتت منعدمة في ظلّ التفوّق الإسرائيلي على العرب مجتمعين.
ومن بين أكثر ما يلفت هو ما أشار إليه عدد من الدبلوماسيّين الغربيّين في القاهرة من أنّ هناك هوّة تقليدية تتّسع اليوم بين الموقفين الرسمي والشعبي في القضايا الخارجية، إذ لا يكترث المصريّون حالياً سوى بلقمة عيشهم.
أوّل من أمس، وقف مصطفى بكري، وهو نائب مستقلّ على يمين الحكومة ورئيس تحرير مجلّة «الأسبوع»، يطالب الحكومة المصريّة بعدم المشاركة في المؤتمر. لكنّ كلمات بكري لم تجد أي صدى لدى صانع القرار الرسمي وسط ضغوط أميركية رفضت غياب مصر باعتبارها الدولة العربية الأولى التي بادرت إلى توقيع معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل عام 1979.
وفيما وضعت صحيفة «الدستور» المستقلّة اليوميّة خيار المشاركة باللون الأخضر في عنوانها الرئيس، للسخرية من اعتبار العرب أنّ السلام هو خيارهم الاستراتيجي، فإنّ الصحف الرسمية رأت أنّ الدول العربيّة والسلطة الفلسطينية ستحضر مؤتمر أنابوليس في اختبار جديد للسياسة الأميركية.
وأمس أيضاً، دافع المتحدّث الرسمي باسم الرئاسة السفير سليمان عوّاد عن مشاركة بلاده، وقال إنّها «تأتي من منطلق الحرص الدائم والمستمرّ على المشاركة في كلّ ما يطرح قضية السلام الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي وتخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني وتحقيق حلمه في إقامة الدولة الفلسطينية».
وردّ عوّاد بشكل مبطَّن على تكهّنات بإخفاق المؤتمر في تحقيق أهدافه، وغمز من قناة أنّ مصر دعت إلى الإعداد الجيّد للاجتماع بجدول أعمال واضح. غير أنّ البعض الآخر يرى أنّ المشاركة المصرية من دون هدف، وتبغي فقط الظهور في الصورة ونفي حالة تراجع دورها الإقليمي.
ويستدلّ هؤلاء على ذلك بحرص الإعلام الرسمي على إبراز إعراب الرئيس جورج بوش عن تقديره للدور المصري. ومن بين هؤلاء، المرشد العام للإخوان المسلمين محمّد مهدي عاكف الذي لم يتورّع عن وصف مؤتمر أنابوليس بـ«الفاشل والمفتعل»، وليس له جدول أعمال سوى القضاء على القضية الفلسطينية.
وحول موقف مصر عمّا يجري في غزّة، قال عاكف «إنّ النظام المصري قادرٌ على أن يجعل غزة جنَّةً على كل المستويات؛ فعدد سكّان القطاع لا يتجاوز عدد سكان حيّ من أحياء القاهرة، لكن دور مصر قد انكمش، فلم يكن هناك دعم للقضية الفلسطينية على المستوى المأمول كما كان في الماضي».
في المقابل، أصرّ وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط أمس على استبعاده أن تقدم الدول العربية على أيّ نوع من التطبيع مع إسرائيل، قبل تسوية القضية الفلسطينية، موصّفاً الوضع على الشكل الآتي: «كل خطوة على طريق التسوية، ستقابلها خطوة مساوية على درب التطبيع».