باريس ــ بسّام الطيارة
فيما كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يوقّع اتفاقات تجارية في بكين، بما يزيد على عشرين مليار دولار، اندلعت اضطرابات في ضاحية باريسية، للّيلة الثانية على التوالي، لتذكّر الرئيس بأن «حالة الضواحي لا تزال كما هي» منذ سنتين، وأن شرارة صغيرة كافية لإشعالها.
«فيليه ـــــ لو ـــــ بيل»، ضاحية سكن عمالية تقع عشرين كليومتراً شمالي باريس، يعني اسمها «فيليه الجميلة». إلا أنه لم يبق من جمالها سوى اسمها؛ فهي تحوّلت خلال سنوات الفورة الاقتصادية إلى «مهجع نوم» لعمال المناطق الصناعية المحيطة بالعاصمة، على غرار العديد من الضواحي.
هؤلاء العمال الذين هم من أصول مهاجرة أفريقية وعربية، باتوا بعد عقود فرنسيين يعيشون على هامش المجتمع الفرنسي. ورغم محاولات عديدة، فإن هذه الضواحي ما زالت تؤلّف «حزام بؤس» يحيط بعاصمة الأنوار، نسبة البطالة فيها مماثلة لنسبة الرسوب في الشهادات الرسمية، التي هي الأعلى في فرنسا.
ضواح لا يجرؤ سكانها على التجول ليلاً. وإذا دخلتها الشرطة، تعبرها بسيارت سريعة لا تتوقف أمام تجمعات «الشباب» إلا إذا كان ميزان القوى لمصلحتها عددياً. وإذا عبرت ضاحية من هذه الضواحي، تهرول في شوارع تسيطر عليها خلال الليل «جماعات الشباب» التي تتجمع على مداخل الأبنية المعتمة، أو تمارس الـ«روديو» على سيارات مسروقة، وهي الرياضة المفضلة اليوم في هذه الضواحي الفقيرة.
و«الروديو» يقتضي سرقة سيارة أو دراجة نارية من مدينة والعودة بها إلى الضاحية لتستعمل مثل حصان وحشي يقوده الشباب في الشوارع بسرعة مجنونة، وفي بعض الأحيان يقومون بسباقات محمومة قبل أن «يرموها» باتجاه واجهة متجر يتم نهبه إذا لم تقض النيران الملتهبة على محتوياته.
ويبدو من التحقيقات الأولية التي أعقبت مقتل شابين خلال اصطدام دراجتهما بسيارة شرطة، أن سيناريو الروديو هو الذي يقف وراء هذه الحادثة، التي كانت «مناسبة» لنزول الشباب إلى الشوارع لليلتين على التوالي، وإحراق السيارات والاشتباك مع رجال الشرطة، الذين أُرسلوا على وجه السرعة لحصر أعمال الشغب في هذه الضاحية خوفاً من امتدادها إلى الضواحي الأخرى.
إلا أنه رغم وضوح أسباب بداية أعمال الشغب، فإن اشتعال فيليه ـــــ لو ـــــ بيل يذكر الجميع بأنه بعد مرور سنتين على «ثورة الضواحي»، لم يتم تقديم أي حل جدي لما بات يعترف الجميع بأنه «سرطان المجتمع الفرنسي».
نيكولا ساركوزي «وعد» خلال حملته الانتخابية بحل مشاكل الضواحي، إلا أنه منذ وصوله لم يحرّك ساكناً في اتجاه أي مشروع جذري لتناول هذه المشكلة. ففي حينها، سمع كل طرفٍ وعود الرئيس الفرنسي كما يحلو له؛ اليمين المتطرف انتظر منه حلولاً تقضي بـ«طرد المهاجرين»، وهو ما بدأه فعلياً بشكل أو بآخر. بينما انتظر اليمين الليبرالي منه أن يعالج جذور المشكلة، وهي إهمال الدولة لهذه المناطق وضرورة إعطائها أولوية في برامج التنمية. وكان كل العاملين في المجالات الاجتماعية في الضواحي قد حذروا من ثورة جديدة في حال عدم الاهتمام ودراسة الأسباب التي كانت وراء الثورة الأولى للضواحي.
السيناريو لم يتغير قط: شباب عاطل من العمل يواجه رجال شرطة مدججين بأحدث وسائل قمع الشغب. الأمهات على الشبابيك لا تستطعن ردع أولادهن عن النزول إلى الشارع، والعاملون في الحقل الاجتماعي يكتفون بالتذكير بما حذروا منه. الجميع ينتظر ليلة جديدة، بينما يرقب الفرنسيون بقلق أخبار الضواحي الأخرى، وهم يستمعون إلى أرقام بيع «الإيرباص» والمفاعل النووية إلى الصين ومردودها المربح على الاقتصاد الفرنسي. المردود الذي لا ينعكس نمواً في ضواحي المدن الفرنسية.