حسام كنفاني
انفضّ الجمع الدولي أمس في أنابوليس، معلناً انطلاق مسار تفاوضي فلسطيني ـــــ إسرائيلي من وحي «التفاهم المشترك»، الذي أعلنه الرئيس الأميركي جورج بوش في افتتاح أعمال المؤتمر، ورأى أنه «بداية قوية»، ولا سيما أن الطرفين كانا قد فقدا الأمل في التوصل إلى بيان مشترك لطرحه في المؤتمر.
لكن من الواضح أن «التفاهم» أسقط من حساباته غالبية النقاط الخلافية، التي خاض على أساسها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي مفاوضات على مدى ستة أشهر مضت، لم يتمكنا خلالها من التوصل إلى رؤية مشتركة لحلها. ومن المؤكد أن الجلستين السريعيتن لبوش مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت قبل المؤتمر، ما كانتا لتؤديا إلى اختراق حول النقاط الخلافية.
ولإنقاذ ماء الوجه الأميركي، ارتضى الرئيس الفلسطيني محمود عباس ببيان عمومي تجنّب كل ما كان الفلسطينيون يطالبون به ويرفضه الإسرائيليون، فيما لم يكن لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ما يخسره بما أن البيان راعى وجهات النظر الإسرائيلية ولم يقدّم إلى الفلسطينيين أي «تنازل» عمّا تعتبرته سلطات الاحتلال خطوطاً حمراء في هذه المرحلة.
وبناءً عليه، كان «الإنجاز» الذي أعلنه بوش، وصفق له المؤتمرون طويلاً، على أساس أنه وضع الطرفين على «السكة الصحيحة» التي من المفترض أن تؤدّي في النهاية إلى رؤية للدولتين، وإن كانت واحدة منهما «يهودية» بالمفهوم النازي، الذي شن حرباً عالمية لإقامة دولة للعرق الألماني، وعلى أساسه ارتكب مجازر بكل من هو غير ألماني.
إلا أن النهاية المفترضة ليست في الأفق المنظور، وإن كانت الأطراف ألزمت نفسها بـ«بذل الجهود» للتوصل إلى اتفاق في نهاية عام 2008، أي قبل نهاية ولاية الرئيس الأميركي، الذي تذكّر أخيراً الصراع في الشرق الأوسط، ليعلن تكريس ما بقي من رئاسته لحله. إذ يبدو مؤكداً أن الفترة غير كافية للتوصّل إلى خط النهاية المطلوب فلسطينياً على الأقل، ولا سيما أن ولايتي الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وصلتا في النهاية إلى حائط سدّ أمام قضايا الوضع النهائي، وخصوصاً القدس المحتلة.
مضمون بيان «التفاهم» لا يوحي بأن الإنجاز يستأهل هذا الجمع الدولي عموماً والعربي خصوصاً، فأي من مطالب المجموعة العربية لم يؤخذ بالاعتبار، والبيان تجنّب أي إشارة إلى مبادرة السلام العربية، ولم يتطرّق إلا إلى «خريطة الطريق»، وبالأخص مرحلتها الأولى، مع ما يعني ذلك من اعتبارات أمنية لن يكون من السهل، إن لم يكن من المستحيل، تخطيها.
وما صدر أول من أمس يمكن رؤيته على أنه «لا تفاهم» أو اتفاق على المتفق عليه أصلاً خلال جولات المباحثات الثنائية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي برعاية وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس؛
ففي بند «الاتفاق» الأول للبيان، جاء «التصميم» على «وضع حد لسفك الدماء والمعاناة وعقود من الصراع بين شعبينا»، الذي من المفترض أن يكون غاية التفاوض في الأساس، رغم أن الطرف الفلسطيني أو الأميركي نجح في سحب تعبير «الإرهاب» الذي كان الجانب الإسرائيلي يصر عليه، واستبدله بـ «نبذ العنف والتطرّف»، في إشارة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية.
أما «الاتفاق» على إطلاق المفاوضات لإبرام معاهدة سلام تتضمّن القضايا الجوهرية، فهو بالتأكيد أدنى بكثير ممّا كانت تريده السلطة الفلسطينية، إذ إنه لم يتطرق بالاسم إلى هذه القضايا، التي سعى الرئيس الفلسطيني إلى تعويضها بتفصيلها في خطابه أمام المؤتمر، وهي القدس واللاجئين والحدود والمياه.
وكتعويض عن سحب تعبير «الدولة اليهودية» من البيان، التي كانت إسرائيل تصرّ عليها، ولا تزال، قدّم الرئيس الأميركي في خطابه إقراراً موثقاً بأن إسرائيل ستكون دولة للشعب اليهودي، وهو ما تعارضه السلطة، وبالتالي فهذه المادة الخلافية الأساسية رُحّلت إلى المفاوضات الثنائية، لتكون قضية خامسة في محاور الوضع النهائي المعقّد.
وخلال مسار المفاوضات الثنائية، كان الجدول الزمني من القضايا العالقة والأساسية في مفاوضات الجانبين، حتى إنه كان واحداً من المطالب العربية الكثيرة التي لم تلبَ قبل أنابوليس؛ فالفلسطينيون أرادوا إدارج فترة ثمانية أشهر كحدّ أدنى في الوثيقة المشتركة على ألّا تزيد على نهاية فترة ولاية الرئيس الأميركي في كانون الثاني 2009، غير أن إسرائيل أصرّت على إدراج «عدم وجود اتفاق على جدول زمني» في الوثيقة، وهو ما كان يعبّر بوضوح عنه صراحة أولمرت ووزير خارجيته تسيبي ليفني. حتى إن كوندوليزا رايس انضمت إليهما في رفض «الجداول الزمنية»، على اعتبار أنها «تحمل إشارات خطر» إذا لم يتم إنجاز اتفاق خلالها.
تسوية هذا الخلاف في التفاهم صبّت في المصلحة الإسرائيلية وإن راعت اسمياً المطلب الفلسطيني. فجاء في «التفاهم» «نوافق على الانخراط في مفاوضات فعالة ومستمرة، وسنبذل جميع الجهود من أجل إبرام اتفاق قبل حلول نهاية عام 2008».
هذه الصيغة المبهمة حمّالة أوجه. كما أن «جميع الجهود» الواردة في النص خاضعة للمسار التفاوضي والعراقيل التي قد يطرحها الجانب الإسرائيلي، وبالتالي فنهاية عام 2008، أي نهاية ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش، لن تكون جدولاً صارماً لنهاية المفاوضات. الأنكى من ذلك، أن الجدول الزمني ومسار التفاوض سيكونان مرتبطين، بحسب «التفاهم»، بمراحل تطبيق خطة «خريطة الطريق»، ولا سيما المرحلة الأولى منها ذات البعد الأمني، بحسب المفهوم الأميركي والإسرائيلي، وهو ما علّق عليه دبلوماسي عربي أمس بالقول «إن الوصول إلى السلام سيؤدي إلى حرب أهلية فلسطينية»، وخصوصاً إذا تمّ لحظ الفقرة الأخيرة من التفاهم، الذي ينصّ على تكريس الولايات المتحدة «حكماً» أوحد لتطبيق هذه المراحل، وإقصاء كل القوى العربية والدولية الأخرى، وكأن التجارب الفلسطينية السابقة مع الإدراة الأميركية لم تكن كافية، لتعيد السلطة تكرار تجربة أثبتت فشلها.