strong>حسن شقراني
اقتصاد كوني جديد بإدارة جنوبيّة (1/2)

كما شهدت الولايات المتّحدة على مدى قرن ونصف قرن تحوّلات تكنولوجيّة ولّدت موجبات لنشوء اقتصاد جديد في كلّ مرّة (بحسب التحليل القائم على أنّ قراءة التحوّلات في التاريخ الاقتصادي تؤدّي إلى تحديد بنية اقتصاد ما بعد «الثورة»)، يشهد عالم اليوم تحوّلاً اقتصادياً ليس لطيف الاقتصاد الأميركي الدور الأبرز فيه.
كان اقتصاد «العالم الجديد»، ولسنوات، المحرّك الأساس للنمو العالمي. ومثّلت القدرة الشرائيّة للمستهلك الأميركي الحافز الأبرز لنمو الوظائف وتوسّع الأعمال في اقتصاديّات الدول النامية (بحكم مقابلة صادراتها بطلب مواز في الولايات المتّحدة). غير أنّ دلائل عديدة تشير إلى تغيّر الحال.
ففي الربع الثاني من العام الجاري، نما الاستهلاك الأميركي بنسبة 1.4 في المئة فقط، وقبل نحو 10 أيّام توقّع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الدولي بنسبة 4.8 في المئة خلال عام 2008، أي ما يزيد على ضعف النمو المتوقّع في أميركا والمحدّد بـ1.9 في المئة للفترة نفسها.
ولم يعد سرّاً أنّ اقتصاد الولايات المتّحدة يعيش تباطؤاً خلال هذا الربع الأخير (رغم أنّ التقويم الأدقّ يحدّد بعد انتهاء فترة الأعياد وتأثيرها على سلوك المستهلك الأميركي). وتفترض المؤشّرات أنّه بحلول العام المقبل قد يتضاءل الإنتاج ومستوى الوظائف. السبب الأساسي يمكن إرجاعه إلى الأزمة في سوق الائتمان المنزلي؛ فالخبراء يتوقّعون وقعاً أكبر على الاقتصاد، يولّده الانخفاض في أسعار البيوت (انخفضت خلال الأشهر الـ12 الماضية بنسبة 5 في المئة)، من ذلك الذي نشأ بفعل انهيار سوق الأسهم عام 2001. وبالتالي، يمكن اعتبار أن «الولايات المتّحدة نحو كساد اقتصادي»؛ فالمستهلك الأميركي مستمرّ بسلوك خفض نفقاته (لم يعد بمقداره الاقتراض على حساب الحفاظ على نمط استهلاكه).
وفي ظلّ هذا المنطق، تعدّ منتهية المحاججة بأنّ الإنفاق الاستهلاكي يرفع من نسبة نمو الناتج المحلّي فقط. فالنتائج السلبيّة التي تنشأ عن هذا السلوك: انخفاض في الادّخار وزيادة في ديون العائلات، أصبحت كبيرة بمكان لم يعدّ عندها إنكار آثار الانهيار صحياً.
هل سيقطر الاقتصاد الأميركي اقتصاد العالم معه نحو الكساد؟ الجواب كان ليكون نعم قبل بضع سنوات. غير أنّ آليّة النمو الكوني الآن تعتمد بكلّ بساطة على اقتصاد الدول النامية!
تلك الاقتصاديات، التي خضعت لعلاجات مكثّفة منذ الأزمة الماليّة في عام 1997، تنمو بنسبة معدّلها 7 في المئة. وستشكّل خلال العام الجاري نحو نصف الناتج الإجمالي الكوني، وقياساً بأسعار صرف العملات، يعادل ذلك 3 أضعاف نسبة مساهمة الولايات المتّحدة.
لا شكّ في أنّ تباطؤ اقتصادي في الولايات المتّحدة سيؤثّر على نمط تطوّر اقتصاديّات البلدان النامية (تعدّ الصين والهند وروسيا والبرازيل الأبرز في مجموعتها)، غير أنّها لم تعد هشّة أمام التحوّلات التي تطرأ عبر المحيطات. ومراجعة مبدأ «الاقتصاد الأميركي هو المحرّك» ليست دقيقة (بمعنى الاستمرار) وذلك اعتماداً على بعض المؤشّرات؛ فمنذ عام 2000، هبطت حصّة الولايات المتّحدة من الواردات الدوليّة من 19 في المئة إلى 14 في المئة، وبدأ يتّضح انخفاض واضح في عجز حساباتها الجارية (الميزان التجاري). ما يعني أنّ البلدان النامية أصبحت تعتمد أكثر على سوقها الداخلية لتصريف سلعها، وبالتالي لم يعد وريد نموّها مرتبطاً بالقلب الأميركي (خلال النصف الأوّل من العام الجاري، أضاف الاستهلاك الداخلي في الصين والهند إلى الناتج الإجمالي الكوني أكثر من رديفه في الولايات المتّحدة).
ومعظم البدان النامية تبدو في حالاتها الأفضل. فهي تمتلك احتياطيّات نقديّة هائلة من العملات الأجنبيّة (ليس أقلّ من 75 في المئة من الرقم العالمي)، ورغم وجود بعض الاستثناءات، فإن معظم تلك البلدان تعاني عجزاً ضئيلاً في ميزانيّاتهم العامّة، وبالتالي يمكنها تحفيز الاستهلاك للتغطية على صادرات متوجّهة نحو الضعف.
والصعود الاقتصادي للبلدان النامية لن تكون نتائجه دفع النمو العالمي فقط (والإكمال في بلورة نظام اقتصادي كوني جديد) بل سيرفع أسعار النفط وسيضعف الدولار (وهي العوارض الجارية والمتوقّع استمرارها بحدّة؛ فاليورو أصبح يقارب دولاراً ونصف دولار والنفط تخطّى حاجز الـ99 دولاراً لبرميل الخام الخفيف)، ولذلك آثار غير مريحة على الاقتصاديّات المتقدّمة وخصوصاً اقتصاد الولايات المتّحدة.
ولهذه المعادلة الجديدة إيجابيّاتها لمراكز النظام الكوني؛ فهي تطرح عالماً جديداً متعدّد الأقطاب في عالم الاقتصاد. وبالتالي، فإنّ مسؤليّة الإخفاق تقع على عاتق الجميع، وأصبح منطقياً الحديث عن عولمة متوازية، وباتت المعايير المعتمدة للتحليل أبعد من انتقاد لوصفات يقدّمها صندوق النقد الدولي إلى دولة في النصف الجنوبي للكرة الأرضيّة!
ولعلّ السلبيّات بالنسبة إلى العالم المتقدّم تبرز في السلطة الاقتصاديّة والماليّة الهائلة التي ستمكّن البلدان النامية من «تهديد» سيادة البلدان التي كانت «حاكمة» قبل التحوّل؛ فبينما تصارع بورصات بلدان العالم المتقدّم تبعات أزمات الرهونات، هناك ما يتهدّد سيطرة حكوماتها على اقتصادها: «صناديق الثروات السياديّة» (للبلدان النامية). تلك الصناديق تسيطر على أكثر من 2.5 تريليون دولار (يتوقّع أن يصل رصيدها إلى 12 تريليون دولار بحلول عام 2015)، للصين وحدها 200 مليار دولار منها، مخصّصة للاستثمار. وتستطيع بكّين، إذا شاءت، شراء شركات «فورد» و«جنرال موتورز» و«فولكسفاغن» و«هوندا».
وليس غريباً تنبّه سياسيّي أوروبا وأميركا لهذا الخطر الجديد؛ فقد أنشأت الإدارة الأميركيّة في الفترة الأخيرة لجنة خاصّة تدرس وقع الاستثمارات الأجنبيّة على أمنها القومي، كما قدّمت الحكومة الألمانية مشروعاً يسمح لها، على قواعد «الحفاظ على الأمن القومي»، بمنع أيّ استثمار غربيّ تقدّر قيمته بأكثر من 25 في المئة من الشركة «المستهدفة». كذلك اقترح العديد من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي فرض معايير أكثر صرامة على عمل «صناديق الثروة السياديّة» في بلدان الاتحاد.
ورغم انتفاء المصلحة الماليّة والتجاريّة من تجيير الصين مثلاً سيطرتها على شركة أميركيّة مفترضة لمصلحة مصالحها القوميّة (بحكم قوانين السوق) إلّا أنّ التخوّف من تحوّل السلطة الماليّة للبلدان النامية إلى مهدّد للأمن القومي لـ «بلدان الشمال» (إن كان التعبير لا يزال جائزاً) منطقي، وهو بطبيعة الحال نتاج سلوك الغرب بشكل عام والأميركيّين بالتحديد: الاستهلاك أكثر من قدرتك يؤدّي إلى بيعك لأصولك (القاعدة البسيطة في عالم التجارة)... فكيف ينوي سياسيّو أميركا معالجة الهاجس الجديد، وخصوصاً أنّ تقاطع العولمة مع التركيز على السياسّة الداخليّة يتمّ عند هامش حسّاس جدّاً؟


اجزاء ملف "أميركا محاصرة بين العولمة والإجراءات الحمائيّة":
الجزء الأول | الجزء الثاني