strong>حسن شقراني
اقتصاد كوني جديد بإدارة جنوبيّة (2/2)

الاقتصاد الأميركي في طريقه نحو الركود؟ الأرجح نعم، مع وصول سلسلة التوسّعات التي شهدها إلى حائط مسدود دفع الاحتياطي الفدرالي نحو مقاربات جديدة والتصرّف بسرعة قبل أن تسوء الأمور. فأزمة سوق العقارات وأسعار النفط المرتفعة تبشّر بانخفاض أكبر في مستوى استهلاك الأميركيّين.
رئيس المصرف الاتحادي الأميركي بن برناكي، قدّم خلال ندوة في «معهد كاتو» في واشنطن في 14 من الشهر الجاري، استراتيجيا جديدة من أجل التواصل مع الجمهور، وبالتالي الحديث أكثر في العلن عن تقويمه للأداء الاقتصادي (مع البقاء خارج مجموعة المصارف المركزيّة التي تحدّد سياسات واضحة في شأن التعاطي مع الأسعار). خطوة وصفها المراقبون بأنّها «لاحتواء التضخّم».
أمام هذا الواقع يواجه سياسيّو الولايات المتّحدة، من الحزبين الديموقراطي والجمهوري (وخصوصاً المرشّحين بينهم لنيل بطاقة السباق نحو البيت الأبيض)، معضلة تفرض نفسها أولويّة في أعقاب التحوّلات التي يشهدها الاقتصاد الدولي: كيفيّة التوفيق بين مجاراة مبادئ العولمة (الأسواق المفتوحة وانسياب الرساميل من دون عوائق) والتركيز على جوانب أكثر حساسيّة بالنسبة إلى المواطن تتعلّق ببرامج الدعم وبرامج الرعاية الاجتماعيّة (ويبرز هنا موضوع الضمان الصحّي) والسياسات الليبراليّة المتعلّقة بالهجرة.
من الواضح أنّ الاقتصاديّين في المعسكرين الديموقراطي والجمهوري يروّجون لـ«مذهب حمائي» جديد، فمعظم المرشّحين الديموقراطيين يعارضون أيّ اتفاقيّات تجاريّة جديدة، وكلّ واحد منهم يلمّح إلى أنّه إذا نجح في «السباق الطويل» سيركّز على فرض عوائق جديدة على الواردات، وربّما من خلال المحاججة بأنّ الشركاء التجاريّين لأميركا يرفعون أسعار سلعهم من خلال التقيّد أكثر بمعايير «قوانين العمل» والمعايير البيئيّة.
وفيما يلوّح الديموقراطيّون بفرض «إجراءات» على سلع «الشريك الصيني» إذا أبقت بكين على سياساتها الحاليّة في ما يتعلّق بعملتها، يستمرّ الطرفان بفحص عواقب «صناديق الثروة السياديّة» التي تريد أن «تشتري أميركا»!
وقراءة متمعّنة في رؤية المرشّحة الأوفر حظاً عن «الديموقراطي»، السيناتور عن نيويورك هيلاري كلينتون، توضح تماماً المأزق الذي يمثّله هامش التوليف الضيّق بين الحمائية والسير مع العولمة. ففي خطاب لها في «سيليكون فالي» في أيّار الماضي (عرضت فيه برنامجاً من 9 نقاط عن «الابتكار»)، تقول: «تعرفون الفوائد التي توفّرها العولمة، فهي رفعت الكثيرين من الفقر حول العالم أكثر من أيّ تطوّر على مرّ التاريخ، وهي ساعدت من دون شكّ على الازدهار» في أميركا.
غير أنّ حديث هيلاري الذي يذكّر كثيراً بتوكيدات زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون المتعلقة بالوعود الورديّة للعولمة (التي تفتّحت براعمها كاملة خلال ولايتيه في البيت الأبيض)، يقابله هاجس آخر يمثّل الشقّ الثاني في خطابها الاقتصادي. فهي كرّست وقتاً ملحوظاً من جولاتها الانتخابيّة من أجل التواصل مع الطبقة العاملة لاستشفاف قلق تلك الطبقة من مستقبل الرعاية الصحيّة وأمن المداخيل. ولا شكّ في أنّ لخطابها صدى. فبحسب بعض الأصوات الاقتصاديّة التي تسعى للتوفيق بين الضغط المستمر على المداخيل والأمن الوظيفي الذي واكب العولمة، ومجمع الحمائيّين، يكمن الحلّ في اتّباع سياسة مرنة أكثر توجد هامشاً جديداً للتعاطي مع العمّال المسرّحين، وتضمن في الوقت نفسه ردوداً ملائمة للنمو. وفي هذا السياق، يبدو أنّ النمط الذي تتّبعه كلينتون في حملتها ينجح حتّى الآن.
إدارة الرئيس جورج بوش تنبّهت أخيراً لمشكلة القروض العقاريّة وتأثيرها الممتدّ على الاقتصاد. وبعض المسؤولين فيها يقترحون تعليقاً لأسعار الفائدة، يوفّر للمقرضين تمحيصاً دقيقاً لطالبي السيولة، فيما آخرون يروّجون لتوسيع نشاطات المؤسّسات التابعة للحكومة الفدراليّة.
«فريدي ماك» و«فاني ماي» هما المؤسّستان الرسميّتان المسيطرتان على سوق القروض العقاريّة الأميركية (التي تبلغ قيمتها 11 مليار دولار). وما شهدتاه خلال الشهر الجاري لا يبشّر بالخير. فقد سجّلت الثانية 1.4 مليار دولار خسائر فصليّة، فيما قاربت خسائر «فريدي ماك» 2 مليار دولار، وهبطت أسعار أسهمها بنسبة 29 في المئة، ما محا كثيراً من أرباح مراكمة على مرّ سنوات. «هذا ليس وقتاً سعيداً» قال رئيس مجلس إدارتها، ريتشارد سايرون.
في ظلّ هذه الهشاشة التي لم يستطع أن يسيطر عليها القطاع العام من خلال السيطرة على النتائج التي تحقّقها مؤسّساته في جهود إعادة التوجيه، ولم تتمكّن آليّات السوق من تدارك عواقبها منذ آب الماضي (حين انفجرت الأزمة)، الاقتصاد الأميركي عالق بين نارين: «تهديد الاقتصاد الكوني الجديد» لأمنه القومي من جهة، والإجراءات الداخليّة المعقّدة لمعالجة الملفّات الشائكة من جهة أخرى.
وللدلالة على تلك الهشاشة والارتباك في مواجهتها، تجدر قراءة التطوّرات التي يشهدها اقتصاد ولاية كاليفورنيا (وهو عاشر أكبر اقتصاد في العالم، بعد روسيا، بحسب تقرير «وورلد فاكت بوك» الذي تنشره وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة) في أقاليمه الممتدّة من هوليوود إلى «وادي السيليكون». فعند تقاطع احتجاجات كتّاب لوس أنجلس على إيراداتهم أمام استديوهات «فوكس»، واعتراضات عمّال البناء على ما يعتري هذا القطاع (انخفض حجم مشاريع إطلاق عمليّات البناء أكثر من 70 في المئة بالنسبة إلى شهر أيلول الماضي مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي)، تنشأ «حركة نقابيّة» في واحدة من أقلّ المناطق في العالم صداقة معها.
حاكم كاليفورنيا، الديموقراطي آرنولد تشوارزنيغر، سيكون مضطراً إلى شرح كيفيّة احتواء انزلاق اقتصاد ولايته نحو الانحسار، وعليه تبرير اقتطاع نحو 10 مليارات دولار من الموازنة، وهو إجراء حاربت كثيراً من أجله الأقليّة الجمهوريّة.
مهما يكن الدواء المفترض، أكان التعويل على اقتصاد يعتمد تحفيز جانب العرض (ويعتمد على اقتطاع من الضرائب وهو ما عوّلت عليه إدارة بوش منذ عام 2001، لتحاكي بذلك إجراءات الرئيس السابق رونالد ريغن)، أم كان «إجراءات كينزيّة» مختلفة، يبقى «اقتصاد فاني وفريدي» أمام مرحلة عصيبة في العام المقبل تشهد استحقاقين: الأول، انعكاسات أكبر لـ«الاقتصاد الكوني الجديد» وتهديدات الكساد. والثاني، التكيّف مع أهواء القاطن الجديد في البيت الأبيض.


اجزاء ملف "أميركا محاصرة بين العولمة والإجراءات الحمائيّة":
الجزء الأول | الجزء الثاني