موسكو ــ حبيب فوعاني
تتبّع التطوّرات السياسيّة في روسيا يفرض من دون أدنى شكّ «احتراماً» لذكاء الرئيس فلاديمير بوتين؛ فالمحلّلون يتعقّبون منذ فترة جذور أيّ خيار يتّخذه، من أجل تغليب واقعيّة سيناريو على آخر، يحدّد أواليّات الحكم بعد انتخاب رئيس جديد في آذار المقبل. وإعلان سيّد الكرملين أوّل من أمس إمكان تولّيه رئاسة الحكومة بعد انتهاء ولايته، يطرح توليفات في إعادة توزيع الصلاحيّات تصل إلى تغيير طبيعة النظام


في 11 أيلول الماضي، قامت روسيا بتجربة قنبلة فراغية جديدة، وصفتها بأنّها «الأقوى في العالم» حتى الآن، وسمّتها «أبو القنابل» مقارنة بالوصف الذي أطلقته الولايات المتحدة على قنبلتها الفراغية، التي فجّرتها عام 2003، وسمّتها «أم القنابل». وذكر المختصّون أنّ القنبلة الروسيّة تحمل شحنات تفجيرية تعادل 7 أطنان مقارنة بـ 8 أطنان تحملها القنبلة الأميركية، إلّا أنّ قوّتها تعادل قوة 4 قنابل أميركيّة.
وفي اليوم التالي، كان العالم على موعد مع قنبلة روسية أخرى إنّما سياسيّة، فجّرها الرئيس فلاديمير بوتين بإعلانه قبول استقالة رئيس الوزراء ميخائيل فرادكوف، وترشيح رئيس الهيئة الفدرالية للرقابة المالية فيكتور زوبكوف لخلافته، وذلك خلافاًَ لكلّ توقّعات «خبراء الكرملين» الغربيين والمحلّلين الروس. ما دفع بالوزير السابق، أوليغ سيسويف، إلى القول إنّ بوتين «هزأ بجميع التنبؤات. وبم يمكن التنبؤ بعد ذلك؟ أشعر بأنّني أبله كبير».
مصادر الكرملين تحدّثت آنذاك عن الشلل الذي أصاب أداء الحكومة في ظلّ التساؤلات عن خليفة بوتين وقبيل الانتخابات النيابية في 2 كانون الأوّل المقبل، وهو ما يبرّر خياره خلخلة الحكومة.
إلّا أنّ يوم أوّل من أمس، وخلال مؤتمر حزب «روسيا الموحدة» الحاكم، شهد تفجير أمّ القنابل السياسيّة، حتّى الآن، عندما أعلن سيّد الكرملين قبوله ترؤّس لائحة الحزب لانتخابات مجلس الـ«دوما» (البرلمان)، وعدم استبعاده ترؤّس الحكومة بعد انتهاء ولايته الرئاسية، ما ألقى بعض الضوء على أسباب المجيء بزوبكوف رئيساً للحكومة.
بوتين تقدّم بشرطين لترؤّسه الحكومة: الأوّل، فوز «الدببة» (الدب هو شعار «روسيا الموحدة») في الانتخابات، وأن يكون الرئيس المقبل لروسيا، الذي ستحدّده الانتخابات في آذار المقبل، «إنساناً مستقيماً، كفؤاً وعصرياً، يمكن العمل معه بروح الفريق».
وبالنظر إلى إجماع المراقبين على نجاح «روسيا الموحدة» المرتقب في الانتخابات، وأن الرئيس الجديد سيُنتخب بإشارة من إصبع بوتين الساحق الشعبية (يؤيّده 80 في المئة من الروس)، فإنّ تصريح الأخير ليس أكثر من «تحصيل حاصل». أمّا «روسيا الموحّدة»، فقد تحدثت مصادره كثيراً عن «خطة بوتين» لتطوير روسيا في الأعوام الـ 15 المقبلة، التي يريد الحزب رفع لوائها.
بيد أن المراقبين يفهمون الآن من هذه الكلمات شيئاً آخر، وهو «خطة عمل»، تسمح لبوتين بالبقاء في السلطة بعد عام 2008 من دون المساس بالدستور، الذي يمنع ترشّحه لـ 3 ولايات متتابعة. وقد أوجع هذا اللغز رؤوس المحلّلين طويلاً، فمن ناحية لم يبدُ الرئيس الروسي مستعداً للإخلاد للهدوء. ومن ناحية أخرى، بدا واضحاً أنّه لا ينوي الترشح لولاية رئاسية ثالثة. وما يُسمّى «خيار دين زياو بينغ»، في إشارة إلى الزعيم الصيني السابق، لبوتين لم يتوافق مع التقاليد السياسية الروسية، حيث إنّه خلافاً للبلدان البوذية أو الكونفوشيوسية، لم يحكم أحد روسيا المشاكسة بقوة المكانة الأدبية وحدها.
أما خيار تربّص بوتين 4 سنوات وراء شخصية ضعيفة انتقالية تتربّع على سدّة الكرملين فقد كان موضع شك، لعدم وجود ضعفاء في السلطة. إذ من سيضمن موافقة الرئيس الجديد على أن يكون شخصية صورية، وألّا يستخدم الموارد الإدارية، بعد إقامته قليلاً من الوقت في الكرملين، ضدّ رئيسه السابق وينقلب عليه؟
ولكن، إذا خلف زوبكوف (66 عاماً) بوتين فسيكون الأخير قد حلّ آخر مهماته، حيث لن يستطيع زوبكوف البقاء في السلطة بعد عام 2012 على الأقلّ بسبب عمره. وهكذا تكون قد انكشفت «خطة بوتين» الاستراتيجية.
محلّلون وسياسيّون آخرون يتوقّعون إجراء تغيير راديكالي في الهيكلية السياسية الروسية، يصبح وفقاً له رئيس الوزراء «مستشار ألمانيا»، الشخص الأوّل في الدولة، ويتحوّل الرئيس الروسي الجديد إلى «ملكة بريطانية».
وفي هذا السياق، تقول محافِظة سان بطرسبورغ، المقرّبة من بوتين، فالنتينا ماتفيينكو، «يجب علينا التحوّل إلى التقليد العالمي، عندما يشكّل الحزب الحاكم الحكومة ويأخذ على عاتقه المسؤولية عن تنفيذ البرنامج والوعود الانتخابية، التي وعد بها الناخبين»، فيما يشير رئيس مركز «ميركاتور» التحليلي، دميتري أوريشكين، إلى ضرورة إجراء إصلاح دستوري «يتحوّل به مركز السلطة إلى الحكومة، ويصبح الرئيس رجلاً فاقداً لمساندة المجموعات السياسية أو المالية المستقلّة».
ويمكن أن تعتمد هذه التركيبة على إخلاص زوبكوف الشخصي لبوتين، وكذلك على التعديلات التشريعية على الدستور، والتي سيطالب «روسيا الموحّدة» بإجرائها إذا فاز، بمساعدة بوتين، بالغالبيّة الدستورية البالغة 300 مقعد من أصل 450 مقعداً.
وقالت مصادر «روسيا الموحّدة» لصحيفة «غازيتا رو» إنّ إعلان بوتين كان بإيحاء من «صانع الأحزاب وحفّار قبورها»، نائب رئيس ديوان الرئاسة، فلاديسلاف سوركوف. وأكّدت أن تطبيق فكرته يعني قطع الطريق على جميع الأحزاب ما عدا «روسيا الموحدة» و«الحزب الشيوعي» للدخول إلى الـ«دوما».
زعيم «الشيوعي»، غينادي زيوغانوف، علّق على الحدث، قائلاً إنّ العقبة الرئيسية أمام قرار بوتين ستكون نشوء نظام الحزبين، يقوم على «روسيا الموحّدة» والمعارضة الشيوعيّة. ورأى أنهّ، بعد انحياز بوتين إلى «الدببة»، فلن يستطيع أي حزب استخدام شعار «مساندة نهج بوتين»، ما سيقضي على مستقبل «الحزب الليبرالي الديموقراطي»، بزعامة فلاديمير جيرينوفسكي، و«روسيا العادلة»، اليساري، بزعامة رئيس مجلس الاتحاد (الشيوخ) سيرغي ميرونوف.
وبالطبع، توجد خيارات أخرى مختلفة. إذ يرى المحلّل السياسي، بوريس مكارينكو، أنّ بوتين سيتحكّم بمسار الأحداث ليس من دار الحكومة بل من الـ«دوما». وسيهيّئ له ذلك استقلالية كبرى وضمانة من المفاجآت، إذ يستطيع الرئيس المقبل إقالة رئيس الحكومة.
أمّا مدير البرامج الروسية والأوراسية في «المعهد الملكي البريطاني للعلاقات الدولية»، بوبو لو، فيعترف بالمهارة الاستراتيجية لبوتين، حيث «أصاب عصفورين بحجر واحد. فهو يظهر أنه ديموقراطي كبير وحريص على تطوير نظام تعدّد الأحزاب، وفي الوقت نفسه سيجمع في يديه مقاليد السيطرة الكاملة على الوضع».
وفيما غالبية المفكّرين الليبراليين الروس، وعلى مدى 200 عام، يصنّفون تركز السلطة في يد واحدة وغياب التوازن السياسي، «الخطر الأكبر على روسيا»، من الواضح أنّ اسم فلاديمير بوتين لن يغيب عن عناوين نشرات الأخبار وصفحات الصحف، وأن حقبة «روسيا البوتينية» القوية ليست إلى زوال قريباً.