رام الله ــ فراس خطيب
تعيش رام الله اليوم على ذكريات أيام عزّ مرت عليها في الأيام الأولى للسلطة الفلسطينية، حتى إنها بدأت تحنّ إلى أيام الإدارة المدنية تحت الاحتلال، في ظل حال الكساد والبطالة والتردي الاقتصادي التي تعيشها العاصمة السياسية للسلطة الفلسطينية حالياً


  • في جوّهــا إدمــان وشعــرة تفصــل القــادم إليهــا عــن عشقهــا... أو كراهيّتهــا


  • كم تغيّر حاجز «قلنديا» في شمال القدس المحتلة، المؤدي إلى رام الله. كم «تطوّر». تطور سلبي يعبّر عن مأساوية تزداد حدة يوماً بعد يوم. هذا هو الواقع في قلنديا. من الأجدر عدم تسميته حاجزاً، فهو أقرب إلى معبر حدودي ثابت. هو نقطة التقاء جدار الفصل الممتد من الشرق والغرب. ومن ورائه أناس منهكون من روتين الحواجز، يعيشون اللحظة من أجل زوالها. هم أعداء الجالس خلف الزجاج، لكنهم، للمفارقة، يتمنون رضاه.
    في قلنديا أبواب وعيون إلكترونية وحواسيب تحكي تاريخك «بكبسة زر». أنفق الإسرائيليون الملايين لإتمامه، وتعاطوا معه على أنَّه حدود نهائية. من هذا المعبر، تظهر النوايا الإسرائيلية، فلا القدس ولا غيرها في الحسبان.

    مدينة أشدّ فقراً

    الطقس حار في رام الله، لكنه محتمل، فيه من رائحة القدس الطاهرة والثقيلة أيضاً. الناس يتجولون في «المنارة»، مركز المدينة. المحال تجارية تفتح أبوابها وأصحابها يحاولون حث المارة على الشراء: نساء يفرشن الخضر على عتبة الطريق لبيعها، بائع طويل القامة يرتدي ملابس تركية قديمة، يغني في الشارع بأعلى صوته، يبيع شراب الخروب، وامرأة تناقشه: «هذا العصير ليس طبيعياً»، وهو يبتسم «اشربيه أولاً وناقشيني»، وإلى جانبه طفل، نضر الوجه، يحمل آيات قرآنية طبعت على الورق ويوزعها على المارة.
    هكذا تبدو رام الله للوهلة الأولى. لكن من يسبر أغوارها ويتحدث إلى ناسها، يكتشف أنَّها اليوم، مقارنة مع الماضي البعيد والقريب، أكثر فقراً وأشد إغلاقاً وحصاراً، وناسها أكثر تعباً. هكذا يقول أهلها.
    يقول شاب من رام الله «أنت لا ترى المدينة سجناً، لأنك قادم إليها من بعيد، لكن البسطاء، ممن يبحثون عن رزقهم، يشعرون أنَّها مدينة ضيقة، سجن كبير، لكن وضعها يظل أفضل من غيرها».

    سوق ليست مكتظة

    الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، من المفترض، بحسب العادات، أن تكون السوق مكتظةً في رام الله، لكنَّها ليست كذلك. عند مدخل أحد الحوانيت في الطرف الغربي للسوق، يجلس شاب في الثلاثينيات من عمره، وإلى جانبه شاب آخر وطفل. كانوا يشاهدون فيلماً عربياً على شاشة التلفزيون المغطى بقطعة من الخيش. يتناقشون ما إذا كانت الخيل في الفيلم أصيلة أم لا. هذا النقاش هو المتوافر حالياً. من السهل الخوض فيه، لا حاجة إلى اتخاذ موقف. فالفراغ يخلق النقاش أحياناً.
    شاب رابع في الحانوت، اسمه محمد، يناقش امرأة في ثمن حذاء رياضي لابنها. ثلاث دقائق من النقاش، انكسر بعدها البائع. ويقول محمد متحسراً على «الخسارة في الصفقة»: «تعرف؟ بالأمس عدت الى البيت بستة شواكل فقط (دولار ونصف دولار)»، ويضيف «عندي أربعة أطفال. ماذا أفعل؟ سأبيع بالخسارة. على الأقل أعود إلى البيت بشيء. انظر حولك، السوق تتكلم».
    الديوان يتوسع، ينضم إليه بائعون آخرون، وبائع القهوة والشاي عند العربة المقابلة. الشكوى لا تتوقف. تجارب صعبة. لا يذكر أحدهم متى خرج مع أولاده إلى مطعم واشترى لهم ما يريدون. يقول أحدهم «خمس وجبات في مطعم محترم في رام الله تساوي نصف راتبي. لا أسمح لنفسي بفعل أمر كهذا».
    يشير بائع العربة، سليم، إلى أن «الحال ازدادت سوءاً في ظل حكومة حماس»، فيرد عليه صاحب متجر الأحذية «هذا رأيك وحدك. أنت نفسك قلت لي إن رجال فتح فاسدون ويتوجب تغييرهم». يحتدم النقاش، فيرد سليم «لدي ستة أولاد، لم أتلق راتباً منذ أشهر. ماذا تريد مني أن أفعل؟ أنا انتخبت هذه الحكومة، فهي المسؤولة عني، وكما قالوا: اعطني خبزاً اعطيك ثورة».
    صاحب العربة لا يتوقف عن الحديث تقريباً. يروي أنه كان عسكرياً في السابق، لكنه اضطر إلى ترك الشرطة وبيع القهوة والشاي. يضيف صاحب الرأي الآخر «كانت الحال سيئة وبقيت سيئة. لقد دمروا القضية. القضية لم تعد قضية رواتب. الوضع سيء منذ زمن. منذ أن شكلوا السلطة. ما فعلته حماس كان خطأ، لكن في الوقت نفسه أنا أتفهمه، فلا يمكن العيش في ظل سلطة لا تتجاوز نفسها التي لا نعرف عنها شيئاً».
    ويصل الاختلاف إلى شخص الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، على رغم الإجماع على أنه ليس قائداً. يقول أحد الشبان «أبو مازن ضعيف جداً. يتنازل كثيراً للإسرائيليين، كل ممارساته كأنها امتصاص للصدمة»، فيما يقول آخر «هو إنسان نظيف لكنه ليس قائداً. لا يمكن أن يكون قائداً. يحتاج الى شخص مثل أبو عمار (الزعيم الراحل ياسر عرفات) ليكون إلى جانبه. وحده لا ينفع».
    الباعة الشبان يتحدثون بطلاقة، هم واعون لما يجري، يعرفون تماماً أين بدأ الخطأ وأين ينتهي. لا يثقون بالسلطة ولا بمؤسساتها. ويلخّص أحدهم «هذه القيادة لا يمكن ان تكون سنداً... ريحونا من غزة».
    قطاع غزة يتخذ شكلاً آخر حين تنظر إليه من الضفة الغربية، فهو لا يعني الكثير بالنسبة إلى أهلها. يقول أحد الشبان «نحن نفضّل أن نبقى بعيدين عن غزة». ويضيف «صحيح أنني أتفهم أحياناً ما فعلته حماس، لكن الكل يُجمع هنا على أننا لا نريد أن تفتح الطريق إلى غزة». ويتابع «إذا افترضنا أن نسبة البطالة الآن 50 في المئة ستصبح 100 في المئة إذا فتحت أبواب غزة. ونحن لن نقبل بهذا أبداً».
    الحديث عن غزة فيه هدوء مشحون. يقول بائع الأحذية، محمد، «أنا لا أفكر بهذه الطريقة. نحن شعب واحد ومصيرنا واحد، نحن أهل هذه البلاد»، ما يستدعي غضب زميله الذي ينفجر قائلاً «في الصباح، لم يكن رأيك هكذا». ويقول شاب ثالث «لا أعرف ماذا أقول، لكن لا يوجد انسجام بيننا وبين أهل غزة. لا يوجد انسجام. هكذا الوضع أفضل. نحن في مكان وهم أيضاً في مكان آخر».

    «ليست مدينة»

    ما إن يحل الليل، حتى يختفي أثر السوق. غالبية الحوانيت تبدأ بالإغلاق، إلا أن هناك من يأبى الاستسلام لوضعية كهذه، فيفتح حانوته على أمل أن يأتيه الرزق.
    في إحدى زوايا الشارع، على أحد الأرصفة تحت شجرة صغيرة، يجلس شابان يتبادلان الحديث. يقول أحدهما، وهو ينفث آخر نفس من سيجارته، «جئنا إلى المدينة واكتشفنا أن المدينة ليست مدينة».
    الاثنان من قضاء جنين، وصلا قبل خمسة أيام إلى رام الله قبل افتتاح الجامعة. يشكو الاثنان من «الحال التعبانة»: «اعتقدنا بأن الأمور هنا تسير على ما يرام. وصلنا بعد عناء الحواجز، طلب منّا المشغل أنّ نعمل من الساعة الثامنة صباحاً حتى الواحدة ليلاً ويدفع لنا 70 شيكلاً (15 دولاراً). وهذا ليس عدلاً».
    القادم إلى رام الله لا يخرج منها بسهولة. في جوّها إدمان. تروي فلسطينية من فلسطينيي 48، تعمل في إحدى المؤسسات الفلسطينية، أن «شعرة تفصل القادم إلى رام الله عن عشقها، وشعرة أيضاً تفصله عن كراهيتها. الحال مركبة لا يمكن وصفها». وحينما تسألها عن شعورها تجيب «أنا أحبها جداً اليوم، لا أعرف ماذا سيكون غداً صباحاً».
    لكن المدينة شاقة بمضمونها. التجوال فيها لغرض التجوال ممتع، لكن كثرة الحديث مع سكانها البسطاء مضنية، إذ المعلومات تثقل على السامع. تحاول أن تصغي الى الشبان، فتعتقد بأنك لم تسمع الأمر الصحيح. تنكر ما تسمعه، وتكرر السؤال: ماذا قلتم؟ هل تقصدون ما قلتموه؟ «نعم»، يقول شاب، للمرة الثالثة، «كانت أيام الحكم المدني أفضل. أيام الاحتلال أريح».
    أناس يعيشون الاحتلال منذ أن ولدوا. الاحتلال تختلف أنواعه بالنسبة إليهم، مرة في المنفى، ومرة في السجن، ومرة تحت الحكم المدني، ومرة تحت السلطة الواقعة تحت الاحتلال. لا يمكن جمع هذه المدينة تحت تعريف واحد يميزها، وحتى لو صممنا على رؤية الجميل منها، فرام الله مدينة محتلة. وحتى لو لم يظهر هذا في مركزها، يكفي وأنت خارج منها أن يوقفك مجند روسي عند قلنديا ليسألك بعبرية ثقيلة «أين كنت؟».

    سهرية!


    الاحتلال والأحداث صنعت من رام الله مكاناً للتأمل أيضاً. فيها حياة ثقافية ومؤسسات داعمة. فيها السفراء والدبلوماسيون. فيها قاعات وفرق للرقص الشعبي والغربي على حد سواء. فيها مسرحيات قيمة، وفيها أيضاً ليل يدلّل الساهرين.
    الليل يسدل ستاره. الإضاءة الصفراء في رام الله ليست كافية لكسر ظلمة شارع «ركب». قد يكون الاسم غير مألوف. الحديث عن مكان أسطوري لبيع البوظة. منذ عشرات السنوات وهو يقام في المكان نفسه. وعلى عكس المألوف، سمي الشارع ركب على اسم «بوظة ركب»، وليس العكس.
    في أحد الأماكن، القريب من مركز المدينة الليلي، حانة واسعة. يرتدي الساقي نظارات طبية، ومن ورائه رفوف تملؤها زجاجات الكحول، وموسيقى هادئة تنبعث في المكان. الشاب خالد الجزائري يغني «عايشة». الساعة التاسعة والربع مساءً، ولا يزال بالإمكان النظر، وأن يجول الغريب بعينيه من طاولة إلى أخرى، وأن يحدق في فراغها.
    أربع فتيات يجلسن إلى طاولة واحدة، يسألن النادل عن أنواع الشمبانيا، وشابان يتناقشان على ما يبدو في موضوع سياسي يجلسان على الكراسي الطويلة بجانب البار، أحدهما يرتدي سترة «صحافة». ومجموعة شبان وشابات إلى إحدى الطاولات. واحد يتحدث وكلّهم ينفجرون ضحكاً.
    الجلسة تبدأ هادئة، لكن مع اقتراب منتصف الليل ينقلب المكان إلى ساحة رقص كبيرة، هكذا اعتاد زبائنه في كل يوم خميس.
    كم يبدو المكان بعيداً عن الصور النمطية لبعض المدن الفلسطينية. ومن يخرج منه، يرى ملصقاً كبيراً عن مهرجان انعقد الأسبوع الماضي لـ«البيرة الطيبة».