الجولان ــ فراس خطيب
يعيش الجولانيون حال انفصال شبه تام عن البلد الأم سوريا، في ظل شروط جائرة تحصر التواصل بحالات نادرة. 40 عاماً من الاحتلال أوجدت مئات قصص الشتات والحنين إلى الأهل والأرض، التي تترقّب فرصة لقاء لا تزال بعيدة


  • أساليـــب مبتكـــرة للتواصـــل... وجيـــل عالـــق بيـــن حنيـــن واحتـــلال


  • طفلة جولانية صغيرة حملت شعاراً حجمه كبير، كتب عليه: «أنا طفلة، لا أعرف جدي ولا جدتي». وإلى جانبها وقفت امرأة جولانية تخطّت الستين تغطي رأسها ووجهها بخمارٍ أبيض، في عينيها صبرٌ يكاد ينكسر، عبّرت عنه بشعار تحمله: «40 عاماً لم ألتق أهلي».
    جيل يمضي وآخر يأتي، والمعاناة في عيني العجوز والطفلة سيّان، معاناة إحداهما في بداياتها، والأخرى في مراحلها المتقدمة، ونهايتها بالنسبة إلى الاثنتين ليست واضحة.
    هكذا يبدو طرف التظاهرة المتواضعة لنساء الجولان أمام الصليب الأحمر في القدس المحتلة. كانت التظاهرة الأسبوع الماضي، والنساء طالبن بـ«وقف معاناة الأربعين عاماً» والسماح لهنّ بزيارة ذويهن في الوطن الأم. حتى هذه الساعة، التظاهرات لم تثمر، والمطالب لم تهدأ. والنساء لا يزلن ممنوعات، والشبان أيضاً، إذ إن الإسرائيليين يسمحون بمرور طلاب الجامعات ورجال الدين فقط.
    معاناة بلغت الأربعين من عمرها، حملت خلالها بآلاف القصص عن الشتات السوري. صارت مسلسلاً حياتياً لم ينته بعد. ليس فقط عند النساء في الجولان، بل عند كل الفئات. من تريد أن تتزوج سورياً، تستطيع مغادرة الجولان شريطة التوقيع على وثيقة إسرائيلية تتنازل فيها عن حقها في العودة الى المناطق المحتلة. رحلة أبدية في اتجاه واحد.
    في حالات «إنسانية»، عند وفاة أحد الأقارب، من الدرجة الأولى، تقبل السلطات الإسرائيلية عبور النساء للمشاركة في المراسيم الجنائزية للتواصل مع الأموات فقط. التواصل الإنساني بين أفراد البيت الواحد، ممن تفرقوا عنوةً، إجباري حسب كل معايير حقوق الإنسان العالمية، لكن هذا المعيار لا يسري في الجولان المحتلة.
    أوجدت الوضعية الميؤوس منها حاجة وأساليب للتواصل، منها ما هو مبتكر بمجمله ومأساوي بمضمونه، تتجلّى في وادي الصيحات، الذي يطلق عليه الجولانيون أيضاً اسم «شريط الآلام»، الواقع عند آخر بيت في مجدل شمس. الصوت المنبثق من الوادي يخترق السلك المهترئ والأجهزة الإلكترونية وصولاً إلى الشق الآخر، إلى الجولان المحرر، حيث يقف سوريون آخرون، يستمعون إلى أصوات إخوانهم.
    وادي الصيحات أمر لا يمكن تجاهله في الجولان. كُتب عنه الكثير في غالبية التقارير التي تحدثت عن الجولان. أناس يقفون على تلّتين، يفصلهم شريط حديد ووادٍ، يتواصلون عبر مكبر صوت. من يقف على مقربة منهم قد لا يفهم ضجيج الأحاديث الصادرة عن مكبرات الصوت، إلا أنهم يفهمون بعضهم بعضاً جيداً.
    من يقترب من هناك، يسمع من الناس قصة مشهورة جداً، صارت تميز وادي الصيحات. قصة امرأة لم تر ابنها أكثر من ثلاثين عاماً، وعندما سمعت صوته ماتت عند الشريط.
    اليوم، الناس لا يأتون كثيراً إلى وادي الصيحات مقارنة مع الماضي، بفضل بعض التطورات التكنولوجية، لكن المكان لا يزال حياً، وسيحكي قصص عائلات لم تلتق منذ عشرات السنين. فالجولانيون المتجولون عند تلة الصيحات لا يعيرون التلّة اهتماماً كالغريب الذي يراها للمرة الأولى. بالنسبة إليهم المشهد مألوف ويتكرّر. وتقول امرأة جولانية «حتى لو صار السلام لن يكون هذا مجرد مكان، سيظل شاهداً على الاحتلال وسيظل اسمه وادي الصيحات».

    الأمهات الطالبات

    الزقاق المؤدّي الى بيت عائلة خاطر في مجدل شمس يذكّر بأزقة المسلسلات السورية. أطفال جولانيون جزء من الزقاق، وفتاة تفتح شباك البيت للتو، تنظر بخجل نحو «الغرباء في الشارع» وصوت فيروز يملأ الأفق.
    بيت عائلة خاطر يبدو هو أيضاً سورياً جولانياً نموذجياً. ساحة مزينة بأحجار ومقاعد ممتدة على جانبيها يتوسطها درج يصعد نحو الأعلى. في وسط الساحة طاولة عريضة، مثقلة بالضيافات، والتفاح بألوانه الثلاثة.
    البيت سوري معمارياً واجتماعياً. رب العائلة مزارع والأبناء يدرسون في جامعات دمشق. سبب الزيارة هو الأم، إلهام خاطر، التي تمثل حالة حديثة في الجولان السوري المحتل يمكن تسميتها «الأمهات الطالبات». فقد انتسبت إلى الجامعة للّحاق بأبنائها وتخرّجت من كلية لحاضنات الأطفال.
    تقول الأم إن الحلم راودها كثيراً، وانتظرت تحقيقه واللحظة المناسبة، الى أن شجعتها امرأة جولانية أخرى، خاضت التجربة قبلها، وحثتها على الالتحاق. وتبدو سعيدة للغاية لـ«تحقيق ذلك الحلم». قالت ان حلمها كان مقتصراً على أن يحمل أبناؤها شهادات جامعية، لكن مع الوقت «اكتشفت أن لي حلماً أنا أيضاً كي أحمل شهادة جامعية. كان حلمي صعباً، فمجتمعنا ليس داعماً لمثل هذه الخطوات، ما أوجد في ذاتي تحدياً في خوض التجربة، وخضتها. في البداية كانت صعبةً لكني نجحت».
    رب العائلة، خالد خاطر، يعمل في مجال زراعة التفاح، من العائلات القليلة التي لا تزال تعتاش على الزراعة وحدها. ويقول «لقد ولّت تلك الأيام يا عزيزي حين كانت الزراعة وحدها تكفي»، مستعيداً مصاعب الزراعة وقلة مصادر المياه التي يستولي عليها المستوطنون «وصاروا يبيعوننا إياها نحن أصحاب المياه».
    الى جانب والديه، يجلس الابن نزار. تجاوز العشرين ويدرس الطب في جامعة دمشق. نزار يعشق دمشق، ويعشق قريته أيضاً. عندما تحدثه تشعر أنه لم يبلور موقفاً حازماً وواضحاً من الحال الواقعية. لا يبدو مثل والديه حازماً.
    ينتمي نزار الى فئة الشباب الذين ولدوا بعد الحرب، ممن عايشوا الاحتلال لكنهم لم يعرفوا سوريا قبله. في قلبه شوق لسوريا لكنه شوق لا يكتمل. فالحنين الى شيء يأتي بعد معايشته. والعيش في سوريا، بالنسبة إلى هؤلاء الشبان، جاء متأخراً. هم جيل عالق بين الحنين الى ماضٍ لم يعشه، وبين احتلال ولد فيه.
    السوريون يسهّلون الطريق لسكان الجولان. يمنحونهم امتيازاً بفعل أوضاعهم. يستطيع السوري في الجولان المحتل أن يدرس في الجامعة التي يريد مجاناً. هناك نسبة عالية من الخريجين في الجولان، ولكن جزءاً كبيراً منهم من دون عمل، ما يدفعهم نحو التفكير في الهجرة.

    عندما غادر الأخرس

    الشمس تلقي بظلالها على الجولان. وتختفي من وراء كروم التفاح. لكن يعز على الزائر تركها. يريد المزيد. فالجولان منطقة شهية، لا شبع منها. ما يميز المآسي في الجولان أنها مخلوطة بالأمل. ثمة دائماً ما يعزي. فلا توجد شعوب ولا حضارات اختفت بفعل الاحتلال. حتى لو غاب الهنود الحمر، لكن اسمهم لا يزال راسخاً، مهما حاول الأميركيون محو ذكرهم. الشعوب الواقعة تحت الاحتلال منتصرة.
    يصمم الجولانيون قبل النهاية أن يتحدثوا عن عاصمة الجولان السوري قبل الاحتلال. من الممكن مشاهدتها عن بعد من منطقة تدعى تل الندى على بعد 20 كيلومتراً من قرى الجولان المحتل. تقع في المنطقة المحررة عام 1974.
    القنيطرة شيء راسخ في ذهون الجولانيين، كبار السن، يعتبرونها «فسيفساء ثقافية لا يمكن نسيانها». كانت مدينة ناشطة ونابضة. فيها مستشفيان وثلاث مدارس ثانوية ومدرستان إعداديتان وسوق للخضر والسمك. كانت عاصمة المرتفعات. سقطت في عام 1967 وصار الاحتلال يستعملها ميدان مناورات. كانت مرتعاً للانفجارات.
    صار عدد سكانها بعد التهجير سبعة آلاف نسمة، وكانت مصدر رعب للسكان بهدف تهجيرهم. ووقع من بقي من السكان على وثائق هجرة طوعية. لم يبق أحد في القنيطرة سوى شخص أخرس. لم ترعبه أصوات الانفجارات والرصاص لأنه لا يسمع. غير أن الاحتلال لم يترك وسيلة إلا اتبعها لطرده، وفي النهاية غادر القنيطرة.
    في عام 1974، وقبل الخروج منها فجّرها الاحتلال وهدم ما بقي من مبان. لم يُعد السوريون بناء المدينة. تركوها شاهدة على جرائم الاحتلال، وبنوا مدينة القنيطرة الحديثة على بعد ثلاثة كيلومترات منها.


    شكسبير تحت الاحتلال!

    في وسط مدينة مجدل شمس تقع مؤسسة «الجولان للتنمية». عمارة حديثة فيها مركز طبي كبير يقدم الخدمات لأهل المرتفعات المحتلّة، ومجهّز بأحدث المعدات. هذا المكان هو ثمرة جهود انطلقت منذ سنوات، الى أن صار مؤسسة تتلقى دعماً من الاتحاد الأوروبي.
    في الطابق الأول مسرح متواضع، كراسيه حمراء وسقفه منخفض. كان هناك فريق عمل منشغلاً في تجهيز القاعة وإعدادها لمسرحية الليلة.
    بدأت فكرة بناء مسرح في الجولان قبل سنوات عديدة، و«كانت مجرد فكرة غير مبرمجة»، هكذا يقول الكاتب معتز أبو صالح، صاحب الفكرة. تحولت هذه الفكرة إلى مشروع ناجح ومسرح ينتج أعمالاً آخرها «تاجر البندقية» لوليم شكسبير.
    ما يميز مسرح «عيون» الجولاني أن أعضاءه من طلاب المدارس وأجيال الطفولة. خاضوا التجربة قبل سنوات، وبدأوا بورشة في بيت الفن، ومن بعدها تطورت الفرقة، وهم كبروا.
    اتخذ المسرح خطاً مهنياً منذ البداية، فكان مسرحاً ملتزماً يبتعد عن السطحية. أُطلق عليه في ما بعد «مسرح عيون». ويقول أبو صالح «الناس في الجولان صاروا يحبون المسرح، يأتون قبل العرض بساعة».
    قبل أيام سارت حافلة الممثلين الصغار في اتجاه مدينة رام الله المحتلة، وعرضت «تاجر البندقية» هناك وعادت بعد أسبوع الى مدينة حيفا. كان العرض رائعاً، وقف الجمهور دقائق يصفق بعد نهايته. كان مشهد الأطفال حين مثلوا شكسبير يبعث الأمل في قلوب الحضور. الأميرة واليهودي شايلوك وأنطونيو ونجاته من انتقام اليهودي.
    ساعة من اللحظات السعيدة، خرج الجمهور بعدها منبهراً بلقاء الأميرة. قصة حب على مسرح جولاني. وتمثل تربية الأطفال على المسرح أيضاً مقاومة، وإذا كان الاحتلال يتّبع ثقافة القوة، ففي الجولان يتّبعون قوة الثقافة، وحتى الآن نجحوا.

    اجزاء ملف "الجولان المحتلّ ":
    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثااث