أرنست خوري
جاء «ميثاق الشرف»، الذي وقّعه يوم السبت قبل الماضي، كل من «المجلس الإسلامي الأعلى في العراق» و«التيار الصدري»، لتحريم الاقتتال بين الطرفين الأقوى على الساحة الشيعية في بلاد الرافدين، واحداً من حلقة قرارات «كبيرة» اتّخذها التيار الصدري منذ شباط الماضي، بدأت مع تعليق عضوية نوّابه الـ32 في البرلمان، مروراً بانسحاب وزرائه الستة من حكومة نوري المالكي في 16 نيسان 2007، وصولاً إلى تجميد نشاطات ذراعه المسلّحة، «جيش المهدي»، في شهر آب، وانسحاب كتلته النيابية من «الائتلاف العراقي الموحّد» في 15 أيلول.
إزاء هذه القرارات «المصيريّة» التي كثُرت التأويلات في شأنها، قد يكون من المفيد ملاحظة خطّين متعاكسين سارت فيهما تلك الأحداث:
فالأوّل يؤشّر إلى «هجوم» التيار على مجمل ما اصطُلح على تسميته بـ«العمليّة السياسية»، للضغط على مؤسّسات هذه العملية لنيل أكبر حصّة ممكنة من مكاسبها في المؤسّسات الدستورية المركزيّة.
أمّا المسار الثاني، الذي بدأ مع إعلان التيّار رفضه القاطع للانخراط في أي تكتّل سياسي معارض، وبالتالي رفض حجب الثقة عن الحكومة الحالية، وتوّج في الاتفاق المكتوب، الأوّل من نوعه، مع منافسه ـــــ عدوّه في الساحة الشيعية (المجلس الأعلى)، فيرى فيه البعض ردّة إلى الخلف وخطوة دفاعية بعدما فقد عدداً لا بأس به من «الحصانات». وهنا لا بدّ من الإشارة إلى 3 ملاحظات:
أوّلاً: إنّ اضطرار الصدر إلى سحب وزرائه من حكومة نوري المالكي في 16 نيسان «احتجاجاً على اجتماع رئيس الوزراء مع الرئيس الأميركي جورج بوش، وعدم تقديم الحكومة جدولاً زمنياً لانسحاب الاحتلال الأميركي من البلاد»، كان خطوة أُرغم الصدر على اتّخاذها، نظراً إلى ضغط قاعدته الشعبية الواسعة جدّاً، لكن الضعيفة تنظيمياً، في اتّجاه رفض استمرار الاحتلال. لكنّ لا شكّ بأنّ الصدر كان على دراية تامّة بأنّ من شأن الانسحاب من الحكومة، تلبية للمزاج الشعبي، أن ينتزع من تياره ورقة الشرعية الحكومية، التي تؤلّف بحد ذاتها مشروعيّة مؤسّساتية ثمينة، لا لأشخاص نوابه ووزرائه فحسب، بل لصفوف مناصريه أيضاً. بناءً على هذه المعطيات، كان قرار الاستقالة مرّاً، ارتضى الصدر تذوّقه، مراهناً على حصانات أخرى، لم يلبث أن فقدها في ما بعد.
ثانياً: عاكس قرار النظام الإيراني دعم حكومة المالكي ومجمل العملية السياسية في العراق، مصالح ورؤية التيار الصدري. فدعم طهران حكومة بغداد أوجب حكماً، دعم القوى الرئيسية التي تؤلّف تلك الحكومة والأجهزة التابعة لها. ويعني ذلك أوّلاً، دعم «المجلس الإسلامي الأعلى في العراق»، الذي يبقى صاحب الحظوة الإيرانية الأكبر في بلاد الرافدين. من هنا، كثرت المشاكل بين إيران والتيار الصدري، وتُرجم ذلك عبر اتهامات ساقها التيار في وجه «النفوذ الإيراني في البصرة من خلال دعم منظّمة بدر ومؤسّسات شهيد المحراب» التابعة للمجلس الأعلى. هكذا، فقد التيار «الغطاء الإيراني»، بعدما خسر الشرعية الحكومية.
ثالثاً: يُجمع المراقبون على اعتبار أحداث كربلاء في آب الماضي، على هامش احتفالات ذكرى مولد الإمام المهدي، وما تلاها من أعمال عنف بين «جيش المهدي» والفصائل التابعة للمجلس الأعلى، بمثابة الحدث الأخطر الذي هدّد وجود التيار الصدري السياسي والعسكري في العراق، منذ معركة النجف مع الأميركيين عام 2004، التي انتهت بتوسّط المرجع الشيعي الأعلى في البلاد، السيّد علي السيستاني، وتثبيته هدنة بين الطرفين، شريطة التزام الصدر وقف تبنّي الهجمات ضدّ قوات الاحتلال الأميركي والبريطاني. وفي السياق، كان قرار تجميد نشاطات «جيش المهدي» لفترة 6 أشهر، خطوة لا بدّ منها، رغم أنها سحبت من بين يدي السيد مقتدى، «ورقة البندقية»، لتُضاف إلى مجموعة المشروعيّات التي سبق أن خسرها، وسيخسرها لاحقاً.
ثالثاً: مثّل توقيع «الاتفاق الرباعي» في 16 آب الماضي، بين كل من حزب «الدعوة الإسلامية» (الذي يتزعّمه المالكي) والحزبين الكرديّين الرئيسيّين والمجلس الأعلى، ضربة قوية للتيار الصدري. فجرى الاستغناء عن عضويته في الاتفاق الذي صيغَت بنوده من أجل دفع «المصالحة الوطنية» قدماً، وتسهيل إقرار عدد من القوانين المطلوبة أميركياً (قوانين النفط والغاز وتعديل اجتثات البعث وقانون الانتخابات المحليّة).
في هذه المناسبة أيضاً، وجد التيار نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ. فبين البقاء في «الائتلاف العراقي الموحّد» بصفة هامشيّة بعد تحجيم دوره فيه من جهة، والخروج من صفوفه تمهيداً لإسقاطه بعدما فقد الائتلاف الغالبية النيابية المطلوبة من جهة ثانية، خرجت قيادة التيار بقرار ثالث، وهو الانسحاب من الائتلاف مع الرفض المطلق لفكرة حجب الثقة عن الحكومة، معطوفاً على رفض الانخراط في أي تكتّل سياسي معارض.
هكذا يمكن فهم «ميثاق الشرف» الأخير، تتويجاً لـ«تراجع تكتيكي»، حفاظاً على ما بقي للتيار الصدري من حصانة ضعيفة. إذ باتت تقتصر على المشروعية الشعبية، والبعض من غطاء «المرجعية». ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ انتقادات السيستاني الأخيرة، في أعقاب أحداث كربلاء، فهمها قادة التيار جيّداً على أنها قد تعني مناصريهم أكثر من غيرهم، فكان لا بدّ من التوقّف، وإعادة النظر في التركيبة التنظيميّة والسياسية والاستراتيجيات الكبرى للتيار، لأنّ فقدان غطاء المرجعيّة نهائياً، سيكون «الرصاصة القاتلة» فعلاً في جسد التيار الصدري.