غزة ــ رائد لافي
ألقت جريمة قتل الشاب رامي عياد في غزة قبل أسبوعين الضوء على وضع المسيحيين في القطاع، في ظل حال من الفوضى الأمنية التي لا تميّز بين الطوائف. وكان للجريمة تداعياتها الخاصة، ولا سيما أنها تنذر بمحاولات زرع بذور الفتنة في أرض لم يسبق لها أن شهدت مواجهات دينية

يخشـــون استغلالهـــم كـ«أوراق سياسيّـــة»... ودفعهـــم إلـــى هجـــرة القطـــاع

ليس سهلاً التفريق بين فلسطيني مسلم وآخر مسيحي في قطاع غزة، فهم متشابهون في عاداتهم وتقاليدهم، وفي وطنيتهم، وكثيراً ما يتشابهون في أسمائهم، إلا في ما ندر، يتجاورون في المسكن، ويتخالطون في الشوارع والمدارس.
المسيحي في غزة لا يهوى السياسة، ونادراً ما يتحدّث بها أو يشارك في فعالياتها وأنشطتها، بعيد عن تجاذباتها واختلافاتها، لكنه استطاع خلال عقود من الاحتلال الإسرائيلي أن يجابه «مخططات» تهجيره من أرضه، لينال نصيبه من الألم والعدوان.
وتحرص الطائفة المسيحية على أن تنسج علاقات طيبة مع الغالبية المسلمة، عبر مؤسساتها التعليمية والإغاثية، ذات الكفاءة والشفافية العالية. أبناؤها هادئون بطبعهم، يحافظون على بقاء خلافاتهم داخل «البيت المسيحي».
لم يكن سهلاً الحديث إلى «مسيحيي غزة»، الذين فضّل الكثيرون منهم «الصمت»، فيما أشار آخرون ممن تجرأوا على الكلام، إلى أسمائهم بالأحرف الأولى، بعدما خيّمت عليهم أجواء من الخوف الشديد، مردّها إلى الخشية من إقحامهم في أتون الخلافات الداخلية، بعدما طاولت الفتنة الشاب رامي خضر عياد، في جريمة قتل «غامضة» هي الأولى من نوعها في قطاع غزة بحق أحد أبناء الطائفة المسيحية.
كان وقع الجريمة صعباً على المسيحيين، الذين لاحقتهم أسئلة الصحافيين وعدسات المصورين، فباتوا «قبلة إعلامية»، رغماً عنهم، حيث فضل كثيرون إغلاق هواتفهم النقالة أو تجاهل الإجابة، فيما لم يستطع آخرون إخفاء خشيتهم من مستقبل الاستمرار في العيش في غزة.
ويخشى المسيحيون في غزة من استغلالهم كـ«أوراق سياسية» في الصراع الداخلي المتنامي، بحسب الياس الجلدة، الذي وصف الجريمة بأنها «رسالة سياسية» تندرج في إطار الرسائل التي توجّهها جماعات لبعضها البعض.
ويعتقد الجلدة أن الهدف من الجريمة، التي تعرض لها شاب مسيحي «مسالم» لا ذنب له، «إظهار قطاع غزة وكأنه مفتقد للأمن والاستقرار، من خلال استغلال الجانب الديني والطائفي لأهداف مشبوهة وغير محترمة».
ويقطن في قطاع غزة قرابة أربعة آلاف مسيحي، جلهم يتبعون طائفة الروم الأرثوذكس، وسط نحو مليون ونصف مليون مسلم. لا ينتمي أبناء الطائفة المسيحية إلى أحزاب وفصائل سياسية، ويتركز نشاطهم في التجارة وإدارة المؤسسات التعليمية والدينية والإغاثية.
وتثير جريمة القتل الأخيرة مخاوف كبيرة من لجوء المسيحيين إلى هجرة قطاع غزة، ويقول الجلدة «يحاولون إشاعة أن القطاع أصبح مكاناً غير آمنٍ بالنسبة للمسيحيين في عهد سيطرة حركة حماس المطلقة على القطاع، والمستفيد الوحيد من كل هذا هو الاحتلال الإسرائيلي».
ويضيف الجلدة: إن «حركة حماس والحكومة (المقالة) التي تقودها في القطاع، مطالبة بسرعة الكشف عن الحقيقة، وتقديم الجناة إلى محاكمة عادلة وعقابهم على ما اقترفت أيديهم، بما يدحض مزاعم الخبثاء، ويقطع الطريق على مساعي زرع بذور الفتنة في المجتمع الفلسطيني».
ويؤكّد الجلدة: «لم نشعر بأي تغيير منذ سيطرة حماس على القطاع، فنحن كمسيحيين نتمتع بحصانة اجتماعية، لكن الجريمة بثّت في نفوس المسيحيين مخاوف كبيرة من احتمالات تكرارها في مرات مقبلة من قبل مجموعات خارجة عن الصف الوطني والاجتماعي».
وكما باقي المسيحيين في غزة، يرفض الجلدة النظر لطائفته على أنها «أقلية»، رغم قلّة عددها وسط الغالبية المسلمة. ويقول «العلاقة مع المسلمين لم تكن في يوم تقاس على اعتبار أننا أقلية، وإنما نحن جميعاً مواطنون متساوون منذ مئات السنين».
حال الخوف التي تحدث عنها الجلدة في الوسط المسيحي، بدت واضحة وجلية في ملامح الشاب رمزي عياد، شقيق الضحية، وباقي أفراد أسرته. وقال «ليس الخوف وحده ما يسيطر علينا، وإنما غموض الجريمة التي راح ضحيتها أخي رامي يضاعف من القلق».
وتراود رمزي أسئلة كثيرة منذ مقتل شقيقه: «لماذا قتلوه؟ ومن هم؟ ومن هي الضحية المقبلة؟». ويقول «كان رامي يتمتع بأخلاق رفيعة. ولم يكن له عداوة مع أحد. ولم يكن ذا انتماء سياسي، وهو ما يزيد من غموض الجريمة وأهدافها».
وخلافاً للجلدة، يرى رمزي أن «الشعب يزداد تطرّفاً»، غير أنه لا يرى أن الأمر مرتبط بحركة «حماس» وسيطرتها على القطاع، مشيراً إلى «الاستفزازات» التي يتعرض لها المسيحيون في غزة من شبان متشددين دينياً.
أحد أصدقاء رامي اكتفى بذكر اسمه الأول، زهير، يبدي مخاوف من احتمال مقتل صديقه على خلفية طائفية، كاشفاً عن تعرض صديقه لتهديدات من جهات مجهولة يعتقد أنها «إسلامية سلفية»، لكونه يعمل في «جمعية الكتاب المقدس». وقال «رامي لم يكن قيادياً أو صانع قرار في الجمعية، التي ينظر لها متشددون على أنها جمعية تبشيرية لنشر الدين المسيحي في أوساط المسلمين، وإنما كان موظفاً عادياً».
«س. ص» واحدة من المواطنات المسيحيات اللواتي تملّكتهن مشاعر رعب حقيقية، دفعتها إلى منع طفلها من الذهاب إلى المدرسة ليومين متتاليين في أعقاب الجريمة. وفضّلت الإشارة إلى اسمها بالأحرف الأولى، رغم أنها استردّت ثقتها نسبياً وعادت إلى ممارسة حياتها كالمعتاد حيث تعمل في مؤسسة تجارية خاصة يمتلكها مسلمان في مدينة غزة.
لم تلتفت «س. ص» يوماً إلى استفزاز واستهزاء بعض «الجهلاء» منها، لكونها مسيحية، فهي تدرك أن هؤلاء لا يمثلون مجتمعاً لها فيه كثير من الصداقات التي تحكمها المعاملات الإنسانية الحسنة، التي تتجاوز الاختلاف العقائدي. وقالت مازحة إن صديقاتها يطلقن عليها لقب «نصف مسلمة»، لأنها تراعي مشاعر غيرها من المسلمين، وخصوصاً في شهر رمضان، حيث تحرص على مشاركة زملائها من المسلمين الصيام، فلا تأكل ولا تشرب طوال ساعات العمل.
ما تمارسه «س. ص» ليس فريداً في الوسط المسيحي، الذي يظهر الكثير من التقدير لمشاعر المسلمين. وقال الصحافي فتحي صباح الذي يجاور مسيحياً منذ بضعة أعوام إنه «حسن الجوار، طيب الأخلاق، ذو معاملة حسنة للغاية». ولم يتردد في تفضيل جاره المسيحي «أبو مفدي» على كثير من الجيران المسلمين، مشيراً إلى أن تسامحه وزوجته وصل إلى حد تعليم أبنائهما القرآن، وإلزام أولادهما بمظاهر الصيام في رمضان، حرصاً على مشاعر جيرانهم من المسلمين في رمضان.
سؤال «الأخبار» عن طبيعة العلاقة التي تحكم المسلمين والمسيحيين في غزة لم يرق لراعي كنيسة اللاتين في فلسطين، الأب مانويل مسلّم، قائلاً إنه «سؤال خارج سياق العلاقة الطبيعية بين المسلمين وإخوانهم المسيحيين الذين يعيشون في الأرض المقدسة منذ مئات السنين».وأضاف «المسيحي عربي ينتمي إلى أمته العربية من المحيط إلى الخليج، وهو جزء لا يتجزأ من النسيج العربي»، رافضاً الحديث عن الطائفة المسيحية في الدول العربية كأقليات وفئات دينية.
مسلّم يتمتع بقدرة فائقة على التعبير وتربطه علاقات طيبة مع فئات المجتمع كافة. وقال «المسيحيون جزء من الفسيفساء العربية، لا فرق بين عربي مسلم وعربي مسيحي»، مشيراً إلى أن الاختلاف العقائدي لا يفسد حقيقة التاريخ والمستقبل المشترك.
وتعتصر مسلّم آلام ومرارة شديدة من تفاقم الصراع الداخلي، ويرفض الاصطفاف إلى جانب طرف على حساب آخر، ويرى أن «المسيحيين لا يأخذون هويتهم من فتح أو حماس، وإنما من تاريخهم وحضارتهم فوق الأرض العربية التي يعيشون فيها منذ آلاف السنين».
ودافع مسلّم عن ارتباط المسيحيين بالأرض العربية مراراً. وقال «نحن المسيحيين وقبل قدوم الإسلام، كنا نبني الحضارة على هذه الأرض لوحدنا، وعندما جاء الإسلام وضعنا أيدينا في أيدي إخواننا من المسلمين لاستكمال بناء حضارتنا المشتركة الأصيلة».
ويؤمن مسلّم بأهمية العمل على حماية الوحدة الوطنية، وقطع الطريق على أية محاولات خبيثة لزرع بذور الفتنة، مقرّاً بوجود أفكار لا تصب في المصلحة الوطنية الفلسطينية، وتعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي. وقال «في الحقيقة إن ما يسود قطاع غزة يدعو إلى القلق، فالمسألة لا تقتصر على المسيحيين، وإنما هناك ثقافة تفرقة بين المسلمين أنفسهم»، مستدلاً بما وصفها «أزمة المساجد»، حيث هجر كثير من المسلمين المساجد بفعل الخلافات والتجاذبات السياسية.
ورأى مسلّم أن طرفي الأزمة «مخطئان»، واستمرار هذه الحال يشكّل خطراً حقيقياً على المسلم والمسيحي على حد سواء، مضيفاً «يجب أن نبحث عن هويتنا الفلسطينية العربية الأصيلة، وكتابتها بذهب الاتفاق لا التفرقة والشقاق».
وأقرّ راعي كنيسة اللاتين بعلاقته الجيدة مع قادة حركة «حماس»، رغم الاختلاف العقائدي. وقال «حماس بالمنطق الرسمي لا أخاف منها، فهي لا تمثل فكراً دينياً متعصباً مثل جماعات السلفيين، ولكنها عبارة عن مجموعات عسكرية وسياسية، أعضاؤها وأنصارها يمثلون قاعدة واسعة متصلبة، وبعضهم متطرف».
وألقى مسلّم باللوم والمسؤولية عن الأوضاع الصعبة في قطاع غزة وانعكاسها على ثقافة المجتمع، على الأمم المتحدة وأميركا وأوروبا، «الذين يفرضون الحصار والعقوبات الاقتصادية على الشعب الفلسطيني»، مشيراً إلى أن «المسيحيين يعانون الآن من الحصار والموت كما يعاني المسلمون».

قبل الانغلاق

كان المسيحيون في غزة، ولا يزالون، جزءاً حيوياً ومهماً من نسيجها الاقتصادي والاجتماعي، رغم تراجع مكانتهم ودورهم في الحياة العامة، إلا أن المؤسسات المسيحية والمدارس التابعة للكنائس، التي تخدم الجمهور المسلم أكثر مما تخدم الأقلية المسيحية، لا تزال تدلّ على دور كان أقوى.
قبل عشرات السنين، كان دور المسيحيين في غزة بارزاً في مجالات الطبابة والتعليم والتصوير وصياغة الذهب ودباغة الجلود. وتكفي نظرة واحدة إلى أسماء العائلات المسيحية لمعرفة مدى اندماجهم في محيطهم بعيداً عن الانغلاق أو التميز. فهناك عائلات عياد، فرح، الصايغ، الصراف، عواد، سابا، الصوري، مسلّم والترزي. وهناك عائلات مسيحية لاجئة من يافا وجوارها مثل عائلة الجلدة، فضلاً عن عائلات أتت في الماضي لأسباب معيشية من بيت جالا وبيت لحم، إضافة إلى أقليّة مسيحية أرمنية تميزت بقدراتها الحرفية والفنية العالية.
المؤكّد هو أن غزة، التي كانت منفتحة على داخلها ومحيطها، باتت بفعل أسباب عديدة أشد انغلاقاً على نفسها مما على محيطها. وربما جريمة قتل رامي عياد لا تعكس مخطّطاً لاستهداف المسيحيين بقدر ما تعكس عمق الأزمة الداخلية التي تفاقمت بسيطرة «حماس» على غزة بالقوة العسكرية قبل أربعة شهور.