strong>حسن شقراني
لماذا الإصرار على أنّ الجميع يحسد اقتصاد السوق الحرّة ومفهوم «اليد الخفيّة»؟

يُعَدُّ التحذير الذي أطلقه مدير صندوق النقد الدولي، رودريغو راتو، أوّل من أمس، في شأن توقّع «هبوط حاد» لقيمة الدولار بفعل انخفاض الثقة بالأصول المقوّمة به، مدخلاً جديداً في إطار مقاربة الأزمة التي يعيشها اقتصاد الولايات المتّحدة تحديداً، واقتصاد العولمة بشكل عام.
الرئيس الأميركي جورج بوش، قال في تعليقه على التعثّر الذي أصاب أسواق المال في التاسع من آب الماضي، إنّ «اقتصاد الولايات المتّحدة يبقى موضع حسد العالم»، ولدى «النظام» ما يكفي من السيولة لإعادة التصحيح وإرجاع الثقة.
وبالفعل، ففقدان الثقة الذي تبلور في اليوم المذكور حين رفضت المصارف إقراض بعضها، عالجه تدخّل المصارف المركزيّة لتزويد من هو بحاجة بالسيولة المطلوبة. وبالتالي أُعيد النظام المالي إلى طبيعته، لكن ليس بفعل «اليد الخفيّة»، شعار «الاقتصاد المحسود»، بل بالمؤسّسات الرسميّة، التي تقع عواقب الخيارات المفروضة عليها من سوق ماليّة شديدة التعقيد، على المواطن العادي.
تلك السوق، التي يبدو أنّ صندوق النقد الدولي لا يريد الاعتراف بصدارتها في تحديد طبيعة توجّه الاقتصاد الدولي على أساس «ثانويّة عامل النقد في النظام»، شهدت في الفترة الأخيرة مشكلة ديون قطاع الإسكان في الولايات المتّحدة. مشكلة مسّت الاقتصاد الدولي بأكمله. ولإيضاح خطورتها، يكفي ذكر انخفاض مبيعات المنازل الجديدة إلى مستواها الأكثر انخفاضاً منذ 7 سنوات، وفقدان نحو 200 ألف موظّف في قطاع البناء وظائفهم.
«من الواضح أنّه كان هناك فشل في آليّة الرقابة والتقنين»، يقول وزير الماليّة الجنوب أفريقي، تريفور مانويل. و«السخرية في الموضوع هو أنّ البلدان التي شكّلت في ما مضى مرجعاً في الإدارة الجيّدة» للنظم الماليّة والنقديّة، هي نفسها الآن، التي تشهد مشاكل ماليّة تهدّد بتدمير الازدهار العالمي، حسبما يشير نظيره البرازيلي غيدو مانتيغا. وحديث الاثنين تزامن مع انعقاد القمّة النصف سنوية لكبار الإداريّين في عالم المال والمصارف في واشنطن، خلال نهاية الأسبوع الماضي.
فإضافة إلى درس في الاقتصاد العام حول كيفيّة توقّع الأزمات الماليّة على الطريقة الكينزيّة، هناك «عظات» تلقّتها الولايات المتّحدة وأوروبا من «بلدان العالم الثالث». والوصول إلى وضع مماثل، حيث «انقلاب الموقف»، ليس غير متوقّع مذ التوسّع الكبير الذي شهده دور السوق الماليّة في الاقتصاد الدولي، وبالتالي التضارب الذي يفرضه بين المصالح الشخصيّة (إداريّو الشركات الماليّة) واحتواء أزمات خانقة.
والبلدان النامية تشعر بنقمة على صندوق النقد الدولي، والسبب يعود إلى تجربة الوصفات الاقتصاديّة التي طالب بها «ثمناً» لـ«قروض النهوض». وبالتالي، فمبرّر جدّاً حديث «مجموعة الـ 24» (البلدان الفقيرة)، بقيادة سوريا والأرجنتين والكونغو، عن أنّ «البلدان النامية تمثّل قوّة رائدة جديدة وعامل استقرار قي الاقتصاد الدولي».
وفي مقابل ذلك، يشدّد مدير الخزانة الأميركيّة، هنري بولسون، على أنّه لا يزال ينبغي الفهم تحديداً، ما أثار زوبعة السوق الماليّة، وكأنّ الموضوع أبعد من إدارة سيّئة لكيفيّة توظيف المصارف التجاريّة لأصولها الماليّة في توظيفات عشوائيّة، في ظلّ غياب الرقابة. وللمفارقة يلفت إلى أنّ أسس الاقتصاد الأميركي سليمة!
وليست البلدان النامية الوحيدة التي أسقطت الحكم على رؤوس حارسي الأنظمة الماليّة الغربيّة، فعديد من المفوّضين الأوروبيّين، شكّكوا، بعد لقاء جمع بولسون مع مسؤولين رسميّين أوروبيّين ويابانيّين وكنديّين، بالمقاربة التي قدّمتها إدارة بوش لإدارة الأزمة مستقبلياً.
كثيرون يشدّدون على أنّه كان بالإمكان توقّّع الأزمة الأخيرة، وبينهم المفوّض الأوروبي للسياسات النقديّة والاقتصاديّة، خواكين ألمونيا. كذلك فعل تقرير لصندوق النقد الدولي صادر في نيسان الماضي، حذّر من أنّ الحراك في «قروض سوق المنازل في الولايات المتّحدة يشير إلى تدهور» مرتقب، وإلى أنّ المشكلة «قد تكبر وتمدّ إلى أسواق أخرى». وهذا ما حدث فعلياً، ما دفع إلى تشكيل الصندوق المشترك (بين الحكومة الأميركيّة والمصارف الخاصّة)، بميزانية تجاوزت 100 مليار دولار، من أجل إدارة ما قد يطرأ.
فإذا كان يمكن توقّع الأسوأ، فلِمَ لم تتم المعالجة المسبقة، بوصفة كتلك التي كانت تُمنح لبلدان آسيا وأميركا اللاتينيّة؟ الواقع أنّ «اليد الخفيّة»، التي تومّن توازن الأسواق، بحسب الرؤية الكلاسيكيّة، فشلت كما أوضحت التجربة مع التوسّع الاقتصادي الضخم، في ظلّ ضرورة تحديد «مقنّن» يواكب مراحله ويضمن استمراره. والمصارف المركزيّة هي التي تؤدي ذلك الدور، وتدخّلها حتمي لضمان عدم الانهيار، لا الانكماش فقط؛ فلماذا الإصرار على أنّ «الجميع يحسد اقتصاد السوق الحرّة ومفهوم اليد الخفيّة». سؤال يبدو أنّ البلدان الفقيرة ستكرره، من خلاله، الموعظة لبوش ولخليفته وخليفة خليفته...