strong>حسن شقراني
بين «الندرة» و«تقويم السوق» يشهد سعر السلعة الأكثر استراتيجيّة في عصرنا تقلّبات تزداد حدّتها مع ارتفاع الطلب عليها في الاقتصاديّات الناميّة، وخصوصاً الصين. إلّا أنّ المحدّدات الأكثر منطقيّة التي تفرض سعر النفط، عبارة عن آليّات أكثر تعقيداً، تتبلور في البورصات، ومصدرها الحالة السياسيّة في الشرق الأوسط

مع حلول عام 2004، عند انتهاء الولاية الأولى للرئيس الأميركي جورج بوش، أصبح استيراد الولايات المتحدة من النفط يمثّل نسبة 57 في المئة من حاجة الاستهلاك المحلي. هذا الارتفاع في الطلب أدّى إلى استنفاد القدرة الإنتاجيّة للمصافي الـ150 المنتشرة عند سواحل البلاد وفي داخلها، وأصبحت تعمل بطاقاتها الكاملة منذ ذلك الحين (تنخفض عن ذلك الحد بنسبة 5 في المئة فقط من حين إلى آخر). وفي العام التالي، انحرف خطّ الإنتاج عن مساره الحدّي وبان النقص في التوازن بين المُصفّى من النفط والمطلوب منه، بفعل إعصاري «كاترينا» و«ريتا» (شركة «فاليرو» وحدها أقفلت 4 مصافٍ في لويزيانا وتكساس).
المصافي استَغلّت الوضع، ليس فقط لرفع الأسعار كنتيجة مباشرة، بل لتأمين امتداد تلك الندرة، وبطبيعة الحال، الربح الزائد غير العادي، من خلال التأخير في إجراء الإصلاحات لمجمّعات لم تُبنَ مثيلات لها منذ نحو 3 عقود.
ومنشآت المصافي الأميركيّة هي في غاية التعقيد من الناحية التشغيليّة، حيث رفعت النظم الجديدة (التقنيّة والبيئيّة) أساليب التكرير إلى مستويات أكثر تقدّماً وحساسيّة في الوقت نفسه، ليس تجاه عوامل الطبيعة فقط، بل بفعل آليّة تشغيلها. فمنذ بداية العام الجاري وحتّى نهاية آب الماضي، أبلغت ثلث المصافي الأميركيّة عن مشاكل في إنتاجها، وهو رقم قياسي حسب ما يشير الخبراء.
ولكن هل ارتفاع أسعار النفط الخام انعكاس مباشر لضعف تلبية الطلب المتزايد في أسواق الاستهلاك الأميركي تحديداً؟
ليس بالأمر غير العادي أن تؤدّي نسبة الـ35 في المئة من ارتفاع سعر الوقود في الولايات المتّحدة (العام الجاري) إلى نتيجة موازية في أرباح عقود النفط الخام، تساوي 23 في المئة. إلّا أنّ ما يطرح التقويم الأساسي للأسعار هو خلاصة المضاربات في سوق العقود الآجلة. وهنا يبدأ التعقيد، والصراع بين المنتجين ـــــ المصدّرين وبين «نبوءات المضاربين».
في 11 أيلول الماضي، اجتمع أعضاء منظّمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) من أجل تدارك أزمة تجلّت بارتفاع بلغت نسبته 27 في المئة، خلال 8 شهور فقط، في أسعار النفط الخام. والقرار الذي أُجمع عليه، كان زيادة الإنتاج بقدر 500 ألف برميل يومياً، رغم أن تصريحات مدير المنظّمة، عبد الله الحدري، بقيت كما كانت عليه قبل الاجتماع، وهي أن «المعروض من النفط كاف للطلب العالمي، إلّا أنّ السوق تديرها بهامش ضخم، التوقّعات».
خبراء الوكالة الدوليّة للطاقة يتوقّعون ارتفاعاً في الطلب على النفط، خلال الربع الأخير من العام الجاري، بنسبة تراوح بين 3 و6 في المئة، والزيادة في الإنتاج التي افترضتها «أوبك»، لمعالجة الأزمة التي تمثّلها السوق الوهميّة (المضاربات على العقود الآجلة خارج إطار العرض والطلب الحقيقيّين) بلغت نسبتها 1.8 في المئة فقط!
ومع استمرار ارتفاع الطلب في الصين (المستهلك الثاني للنفط بعد الولايات المتحدة)، حيث التوقّعات تفيد بمقاربته نسبة الـ7 في المئة خلال هذا الربع الأخير من هذا العام، رغم الأزمة الماليّة التي شهدتها ولا تزال تشهدها السوق الماليّة في وال ستريت منذ 9 آب الماضي، تبدو حجّة «أوبك» في موقع حرج، لكن ليس حرجاً جداً. فكيف يكون للمضاربات تأثير ضخم في تحديد توجّه السوق وتأمين توازن وهمي؟
شهد الشهر الماضي شراء 69 مليون برميل نفط باعتمادات ماليّة وقائيّة، فيما الطلب العالمي على النفط بحدود الـ83 مليون برميل يومياً، ومع استمرار انخفاض قيمة الدولار أمام العملات الأخرى، لا يبرح النفط يكرّس صفته، «الذهب الأسود»، مع مرور الأيّام. والمستثمرون بطبيعة الحال يفضّلون ما قيمته مضمونة على عملة تزداد الضعوط عليها.
سعر برميل النفط الخام تجاوز الـ90 دولاراً للبرميل الأسبوع الماضي (رقم قياسي تاريخي)، ليعود أوّل من أمس ويقارب مستواه الأدنى منذ منتصف الشهر الجاري، عند 84 دولاراً. ويبرز سببان أساسيّان لتحليل التحوّل:
الأوّل، هو أنّ الغزو التركي لشمال العراق من أجل «القضاء على إرهاب» عناصر حزب العمّال الكردستاني، قد تأخّر كثيراً. فرغم «أنّ عملاً عسكرياً (يشنّه الجيش التركي) بدا مسألة حتميّة، إلّا أنّ الموضوع الآن قد وُضع جانباً»، كما يقول المستشار الاستراتيجي في «كومنولث بنك أوف أوستراليا»، توبين غوري. غير أنّ الرئيس التركي عبد الله غول، أعاد التشديد أمس على أنّ أنقرة «تفقد صبرها»، ولن تتورّع عن اتّخاذ الخطوات اللازمة من أجل دحر «الإرهاب» داخل الأراضي العراقيّة. ما أعاد رفع الأسعار إلى حدود الـ89 دولاراً للبرميل.
أمّا العلّة الثانية لانخفاض الأسعار، فكمنت في توقّعات الخبراء بأن يكون الارتفاع في الاحتياطي من الخام الأميركي ارتفع بحدود الـ960 ألف برميل، الأمر الذي أراح الأسواق بشكل كبير.
ويبقى التوتّر في الشرق الأوسط محدّداً لسلوك الروّاد في الأسواق الماليّة، حيث المحافظ الكبرى الحاوية للعقود النفطيّة. وعدوان تمّوز على لبنان العام الماضي، استتبع ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، ومن الآن حتّى نهاية هذا الربع الأخير من العام، ستكتسب مقولة الـ100 دولار للبرميل واقعيّة متزايدة؛ فإلى جانب التوتّر في كردستان العراق، هناك توتّر الخليج الفارسي، واحتمالات حرب تشنّها الولايات المتّحدة على إيران... كلّ ذلك و«أوبك تفعل ما بوسعها» والمتنبّئون في «وال ستريت» تعتريهم «رعشة المضاربة» و»الأرباح الضخمة».