strong>معمر عطوي
توحي التوترات الدائرة في شمال العراق بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، بوجود مناخات حرب تركية ـــــ أميركية باردة، يحاول خلالها الطرفان رفد أدوات النزاع بوقود كردي، رغم سعي واشنطن إلى عدم تطور هذه الحرب إلى درجة قد تقوض أحلامها في بلاد الرافدين.
ومن الواضح أن الانشقاقات التي يعانيها حزب العمال الكردستاني بجناحيه التركي والإيراني، منذ اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في تركيا في عام 1999، تُظهر مدى جنوح البعض في هذا الحزب اليساري إلى طلب الدعم الأميركي لاستكمال معركته من أجل تحقيق الاستقلال.
هذا التورط الأميركي بدعم أطراف كردية مناهضة لإيران وتركيا وربما سوريا، الذي أكدته تقارير إعلامية واستخبارية، دفع الجانب التركي إلى تعزيز روابطه مع دول الجوار على حساب علاقته التاريخية مع حليفه الأكبر في حلف الأطلسي، ولا سيما بعد اتساع حجم الهوة بين أنقرة وواشنطن، منذ رفض أنقرة فتح آراضيها أمام غزو القوات الأميركية للعراق في عام 2003.
الجانب التركي أيضاً يشهد شبه انقسام بين مؤسستيه العسكرية والسياسية؛ ففيما تسعى الأولى إلى محاربة الأكراد لتأكيد دورها السياسي مدافعةً عن الدولة العلمانية، وتعزيز البعد القومي في وجه التمدد الديني، تتريَّث الأخرى في شن هجوم شامل على الأكراد لاقتناعها بأن الحل العسكري في جبال القنديل، حيث يعسكر حوالى 3500 مقاتل كردي، لن يحل المشكلة الكردية المستعصية جذرياً، مع وجود رافد بشري وإيديولوجي لحزب العمال في جنوب شرق الأناضول التركي.
إضافة إلى ذلك، يمتلك حزب العدالة والتنمية قواعد شعبية كردية داخل تركيا أسهمت في إيصال عدد لا بأس به من النواب الأكراد على لوائحه الانتخابية، كما يرتبط بعلاقة طيبة مع حزب المجتمع الديموقراطي الكردي، الذي أوصل أكثر من 20 نائباً إلى البرلمان التركي في انتخابات تموز الماضي.
أماَّ الجانب الأميركي فهو في الوقت الذي يسعى فيه إلى تحريك جبهة الأكراد من أجل الضغط على تركيا وإيران، وفي مرحلة لاحقة على سوريا، يسعى أيضاً إلى عدم بلوغ الأزمة مرحلة الانفجار الذي يمكن أن يقوّض أهدافه في تحقيق الفيدرالية في العراق، انطلاقاً من إقليم كردستان في شمال البلاد.
ولاتساع الهوة في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا أسباب عديدة، أبرزها سعي الكونغرس الأميركي إلى وصف المجازر التي ارتكبها العثمانيون إباَّن الحرب العالمية الاولى بـ«الإبادة الجماعية» ودعم إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش لاستقلال إقليم كردستان، ولمسلحين أكراد ربما انشقُّوا عن حزب الحياة الحرة «بيجاك» في غرب إيران، من أجل زعزعة النظام الإسلامي.
كما أثار امتعاض أنقرة تحويل الاحتلال الأميركي بلاد الرافدين إلى معقل للمتشددين الإسلاميين، الذين يمكن أن يؤثّروا بشكل أو بآخر على استقرار تركيا ذات الغالبية الإسلامية «المعتدلة».
أماّ الجانب الآخر من المشكلة فيكمن في تعزيز أنقرة لعلاقاتها مع دول هي إما خصوم أو أنداد للإدارة الأميركية مثل سوريا وإيران وروسيا وحكومة حركة «حماس» في فلسطين؛ فمستوى التبادل التجاري والاستثماري بين أنقرة وإيران ارتفع في الأشهر الأخيرة، مع اعتزام أنقرة استثمار ‏3.5‏ مليارات دولار في الغاز الإيراني، الذي أصبح في المرتبة الثانية بعد الغاز الروسي كمصدر للطاقة في تركيا، التي تصر على هذه الاتفاقيات رغم معارضة واشنطن. ويشير مسؤولون أتراك إلى أن البلدين وقّعا اتفاقاً مبدئياً لضخ الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر تركيا‏.
وكانت العلاقات الإيرانية ـــــ التركية، التي شهدت فتوراً بعد الثورة الإسلامية في عام 1979، قد شهدت تطوراً في بداية القرن الحالي، على خلفية الاتفاق على الحد من طموحات الأكراد الاستقلالية، حيث أجريت صفقة تتخذ بموجبها تركيا إجراءات حيال منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، في مقابل إسهام طهران في ملاحقة عناصر حزب «بيجاك».
‏ومنذ طرد سوريا لعبد الله أوجلان في عام 1999، شهدت العلاقات بين أنقرة ودمشق تحسناً بالغاً، عززته زيارة الرئيس بشار الأسد إلى تركيا منذ أسبوعين، ولا سيما بعد مباركته ضرب قواعد حزب العمال، ما يعكس مخاوفه من انتقال عدوى «الاستقلال» الكردي إلى شمال سوريا.
هذه العلاقة انعكست على تحسُّن التبادل التجاري بين البلدين، الذي يمكن أن يشهد ارتفاعاً قد يبلغ ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار في الحدِّ الأدنى نهاية العام الجاري، ولا سيما بعد دخول منطقة التجارة الحرة السورية ـــــ التركية حيِّز التنفيذ مطلع هذا العام.
أما بيت القصيد في هذا الفتور الذي تشهده العلاقات الأميركية ـــــ التركية فيكمن في تعزيز أنقرة لعلاقاتها مع الجانب الروسي، الذي يعتمد خياراً استراتيجياً مناهضاً لواشنطن. وأضحت موسكو نتيجة هذه العلاقات ثاني أكبر مستورد للبضائع التركية بعد ألمانيا، بينما تستثمر تركيا أكثر من 12 مليار دولار في حقل البناء في روسيا.
مما لا شك فيه أن الحرب الباردة بين واشنطن وأنقرة قد بدأت ملامحها تظهر في شمال العراق، لكن يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يتحمل الجانبان عواقب حرب ساخنة على تخوم بلاد الرافدين؟