strong>أرنست خوري
أكثر ما يحضر في خطابات الرئيس الأميركي جورج بوش وجنرالات حربه عن إيران في الفترة الأخيرة، هو دورها «التخريبي» في العراق عبر تهديد أمن الجنود الأميركيّين. وبات يلوح في الأفق أخيراً احتمال قيام الإدارة بالاتّكاء على القانون الذي أجاز الحرب على العراق لشنّ هجوم عسكري لم تتّضح ملامحه بعد على إيران. فهل من مجال لخطوة كهذه؟

ثمّة شريحة واسعة من المحلّلين وصنّاع الرأي والسياسيّين باتت تعتبر أنّ قرار الحرب على إيران اتُّخِذ فعلاً في الإدارة الأميركية، وأن الرجوع عنه بات من رابع المستحيلات في حسابات جورج بوش، الذي لم يبقَ أمامه سوى عام ليستكمل مسلسل الحروب التي شنّها تحت شعار كرّس في سبيله ولايتين كاملتين: «الحرب على الإرهاب». غير أنه لا أحد يقلّل من أهمية العقبات، وخصوصاً الداخلية منها، التي لا تزال تعترض بوش في مشروعه الحربي.
في المقابل، هناك معطيات عديدة تشير إلى أنّ بحوزة الرئيس والفريق المحيط به، مجموعة من الأدوات التي ستكون كافية ووافية للقيام باللازم ضدّ النظام الإسلامي في طهران. ويُجمع معظم المتابعين على اعتبار الجبهة العراقية بمثابة الباب المفتوح نحو الجار الفارسي لضربه عسكريّاً، بعدما فشلت جميع الأدوات التي توسّلتها الاستراتيجية الأميركية ضدّ طهران منذ سنوات.
فكيف سيلتفّ بوش على معارضة مجلسي الكونغرس ذات الغالبيّة الديموقراطيّة المعارضة له ولخيار الحرب؟ وما هي الأوراق التي يمتلكها الرئيس ليضرب «النظام الشرّير القابع في طهران»؟ كما وصف إيران خلال تعليقه على تقرير كروكر ـــــ بيترايوس في أيلول الماضي، بعدما ظهرت محدودية النتائج التي أتت بها العقوبات الاقتصادية والتحريض على تغيير النظام الإيراني من الداخل والخارج وتعبئة المجتمع الدولي ومحاولات الاستفزاز التي تمارسها يوميّاً ناقلات الطائرات والأساطيل البحريّة المرابضة قبالة الشواطئ الإيرانية في الخليج.
من المعروف أنّ الدستور الأميركي يحصر حقّ إعلان الحرب بقانون يصوّت عليه مجلسا الكونغرس (الفصل الأول، المادّة الأولى، الفقرة السابعة، البند 11)، ويعطي الرئيس حق إعلان حرب على أن يحصل على موافقة الكونغرس في غضون 60 يوماً من بدئها.
لكنّ الرئيس بصفته القائد العام للقوّات المسلّحة (مادة 2، فقرة 2، بند 1) سبق أن أدخل بلاده في حروب من دون أن يعلنها الكونغرس بموجب قانون، وكانت حربا كوريا (1950 - 1953) وفيتنام (1957 - 1975) من ضمن هذا النوع من الحروب التي أتت مخالفة للدستور لأنّ الكونغرس لم يعلنها.
أمّا والحال أنّ الرئيس الحالي يعيش أسوأ فترات حكمه من ناحية عدم الشعبية وصراعه مع الكونغرس الذي لا يفوّت فرصة ليضيّق الخناق على سيّد البيت الأبيض، فقد يخرج بمطالعة قانونيّة يقول فيها للعالم وللأميركيّين خصوصاً، إنّ القانون رقم 107/243 (تاريخ 16 تشرين الأوّل 2002) الذي فوّض إلى القوّات المسلّحة الأميركيّة شنّ الحرب على العراق، يمكن اعتماد بنوده نفسها ضد إيران، نظراً إلى عدد من المعطيات التي تكتنفها مواده،
فالنصّ يفنّد في 5 صفحات الأسباب الموجبة التي برّر فيها المشرّعون الأميركيّون قرارهم إعلان الحرب على العراق، وهي تبدو اليوم قابلة للإسقاط حرفيّاً على الحالة الإيرانية، في ضوء الاتهامات التي تسوقها إدارة بوش لنظام طهران. وفي هذا السياق، يشير مضمون البنود إلى أنّ الحرب على العراق تبرّرها 5 نقاط رئيسية على الأقلّ:
ــــــ أوّلاً: «سعي العراق (حينها) إلى امتلاك أسلحة دمار شامل وتطويرها»، (يصنّفها إلى ثلاث فئات: نوويّة وبيولوجيّة وكيميائية)، وهو عنوان الحملة الدوليّة الحاليّة ضدّ إيران في ما بات يُعرف بـ«الملف النووي الإيراني».
ـــــ ثانياً: «دعم بغداد لتنظيمات إرهابيّة» وفي مقدّمها «القاعدة» (وهو ما يمكن تطبيقه على الاتهامات الموجّهة إلى إيران في دعم الميليشيات العراقية الشيعيّة التي تقاتل الاحتلال، وحركة «طالبان» في أفغانستان وحزب الله في لبنان وحركتي «حماس» والجهاد الإسلامي في فلسطين، وهي جميعها تنظيمات «إرهابية» بحسب القاموس الأميركي).
ـــــ ثالثاً: «تهديد الأمن والسلم الدوليّين، وبالتحديد تهديد أمن الولايات المتّحدة وأمن دول الخليج». وليس القارئ هنا بحاجة إلى كثير من التحليل ليلاحظ أنّ هذا الشعار بالذات يتصدّر قائمة الاتهامات التي توجّهها واشنطن لطهران. وترتبط هذه النقطة بالإشارة الأولى، بحيث ادعت أميركا في قانون عام 2002 أنّ لدى نظام صدّام حسين نيات لاستعمال أسلحته النووية ضدّ جيرانه. أمّا اليوم، فتُتّهم إيران كذلك بأنّها تسعى لامتلاك السلاح النووي «لترمي إسرائيل في البحر» ولتفرض تهديداً على دول الخليج ذات الغالبية الإسلامية السنيّة ولتهديد «الغرب المسيحي».
ـــــ رابعاً: «اغتصاب نظام صدّام للقرارات الدوليّة من خلال عدم احترام حقوق القوميات وحريّات المواطنين»... والأمر مشابه مع إيران، بحيث أنّ التركيز ينصبّ من خلال المؤسّسات الأميركية الرسمية على الطبيعة «القمعية» للنظام الإيراني (حريّات عامّة، حقوق إنسان، حقوق أقليات، حقوق المرأة ومثليّي الجنس...)، حتى إنّ إحدى الفقرات التي اعتُمدت كأسباب موجبة للحرب على بلاد الرافدين، كانت «رفض العراق إطلاق سراح مواطن أميركي عضو في أحد أجهزة الاستخبارات وقبض عليه الجيش العراقي خلال اجتياح الكويت عام 1991». ويتماهى هذا الكلام الذي يعود إلى قبل 5 أعوام، مع الحملة الإعلامية التي أُثيرَت أخيراً في ضوء اعتقال الجامعية الإيرانية حاملة الجنسيّة الأميركية هالة أصفندياري ومحاكمتها بتهمة التجسّس.
ــــــ خامساً: «ضرورة أن تُوجّه سياسة الولايات المتّحدة صوب استبدال النظام (صدّام حسين) بآخر ديموقراطي». أليس هذا فحوى خطابات بوش المتكرّرة التي باتت لا تجد حرجاً في الإفصاح عن أولويّة تغيير نظام الملالي؟
هكذا لن يغيّر استبدال كلمة العراق بإيران في بنود القانون المُشار إليه شيئاً تقريباً، بحيث إنّ جوهر التهم المساقَة ضدّ العراق في الأمس، هي نفسها التي توجّهها إدارة بوش إلى إيران اليوم.
من هنا، قد ينصح الخبراء القانونيّون المحيطون ببوش باعتماد نظرية مفادها أنّ الأهداف التي من أجلها شنّت الولايات المتحدة حربها على العراق، والتي كلّفتها حتى اليوم نحو 3700 جندي وآلاف المليارات من الدولارات، لم تتحقّق بسبب «الدور الإيراني التخريبي والإجرامي في زعزعة حكومة العراق وفي دعم الإرهابيّين بالسلاح والتدريب والمال لقتل جنودنا»، كما عبّر بوش في تعليقه على تقرير بيكر ـــــ هاملتون. وتقود هذه «الفتوى» إلى اعتبار أنّ النجاح في العراق لن يتحقّق إلّا بفتح جبهة جديدة... ضدّ إيران، لأنّ المسارين متلازمان، وبالتالي يصبح خيار الضربة العسكرية خاضعاً لتفويض القانون 107/243/ 2002.
وهو مخرج يتفادى معه بوش محظورين: الأوّل، مخالفة الدستور والسير في حرب من دون تفويض الكونغرس (على رغم السابقتين التاريخيّتين في كوريا وفيتنام). والثاني، محظور الذهاب إلى الكونغرس لاستجداء سماح باعتماد خيار الحرب، إذ يُدرك بوش أنّه خيار «انتحاري» لكونه لا يملك الغالبية في المجلسين التشريعيَّين.
وفي السياق، تظهر مفارقة توضح عمق العداء الذي تكنّه إدارة بوش اليوم لنظام الثورة الإسلامية. ففي عام 2002، تاريخ صدور قانون الحرب على العراق، كانت دوغما «الحرب على الإرهاب» تعيش عصرها الذهبي نتيجة الأثر النفسي والسياسي لأحداث 11 أيلول 2001. لكن حتّى في تلك الظروف، لم يصل الأمر بالإدارة الأميركية إلى وضع «الحرس الجمهوري» العراقي (المعروف بأنّه كان العصب القوي للنظام البعثي آنذاك) على لائحة «الإرهاب». بينما في المقابل، تبدو «النية الحربية» واضحة إزاء إيران من خلال وضع «قوّة القدس» (إحدى فرق الحرس الثوري وحامية النظام كما كانت عليه الحال مع الحرس الجمهوري العراقي) على لائحة التنظيمات الإرهابية، ويُعدّ هذا الأمر سابقة تاريخية في مجال وضع هيئة رسمية نظامية على لائحة الإرهاب. ولم تكن هذه الخطوة سوى تتويج لمسار أميركي طويل بدأ في مواقف حربية ثمّ تطور إلى خطوات عملية عبر دعم المعارضين خارج البلاد وداخلها، مروراً بتشديد العقوبات الاقتصادية على تبادلات إيران، ووصولاً إلى القرار الرئاسي الذي صدر أواخر شهر نيسان الماضي الذي قضى بزيادة العمليّات التي من شأنها زعزعة النظام الإسلامي. وبحسب مدير «برنامج وسط آسيا للسياسات الدوليّة» في واشنطن سيليج هاريسون، فإنّ نجاح الكونغرس بفرض رقابته على مضمون هذا القرار الرئاسي دفع بالاستخبارات الأميركية إلى «تلزيم» تطبيقه إلى قوى حليفة مثل إسرائيل وباكستان (مجلّة «لوموند ديبلوماتيك»، عدد شهر تشرين الأوّل الجاري).
وفي ما يتعلق بهذا الموضوع، يؤكّد هاريسون أنّ هاتين الدولتين الحليفتين للولايات المتحدة، توفران السلاح والمال للتنظيمات المعارضة في جنوب شرق البلاد وشمال غربها حيث توجد بكثرة «الأقليّات» البالوشية والأذريّة والكردية والعربية السنية والشيعية التي تشكل مجتمعة نحو 44 في المئة من مجموع السكان، وهي تسعى إمّا إلى الانفصال عن إيران وإما إلى تغيير نظام الحكم الإسلامي ذي الهيمنة الفارسية.
أمّا العقوبات الاقتصادية فيشير هاريسون إلى أنّها كانت أكثر فعاليّة من دعم المعارضة الإيرانية في الداخل والخارج. لكن حتّى هذه العقوبات لم تحقّق إلى اليوم الأهداف الأميركيّة في محاصرة الاقتصاد الإيراني للتسريع في القضاء على النظام وإسقاطه. فمن أصل 40 مصرفاً يتعامل معهم النظام الإيراني، فقط 7 منها تجاوب مع الضغط الأميركي وقطع علاقاته مع طهران، حتى إنّ إيران فعّلت تعاملاتها ومبادلاتها الاقتصادية الخارجية تحت الحصار. فعلى سبيل المثال، بلغ الميزان التجاري بين إيران والإمارات خلال العام الجاري 11 مليار دولار.
إنّ التصريحات الأخيرة لكلّ من وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير الذي قال «يجب أن نتهيّأ للأسوأ في الملف الإيراني، والأسوأ هو الحرب»، ورئيس حكومة بريطانيا غوردون براون، الذي أشار منذ أيام إلى أنه لا يستبعد أن تدعم بلاده خياراً عسكرياً ضد طهران، ليست سوى أصداء لعبارة أطلقها بوش نفسه في 28 من شهر آب الماضي عندما قال: «سنردّ على النشاطات الإجرامية التي ترتكبها إيران في العراق».
إذا كان قرار الحرب قد اتخذ فعلاً، يبقى تحديد المدخل، وهو على الأرجح سيكون عراقياً، حيث تحول الجيش الأميركي إلى «ثعلب وقع في الفخّ»، بحسب تعبير رئيس تحرير صحيفة «رسالات» الإيرانية المحافظة أمير مهيابيان، الذي يتساءل «هل علينا إخراج الثعلب من الفخّ وهو يريد أن يلتهمنا؟».