بوينس أيرس ـــ بول الأشقر
من الصعب سرد قصّة كريستينا فرنانديز من دون الحديث عن نيستور كيرشنير، والعكس صحيح. اليوم، وقد اكتملت القصّة، من الممكن القول إنه مهّد لها، ثم خلفته. إلّا أنّ الرواية بحاجة إلى بعض التدقيق لفهم ماهيّة هذا الزوج الرئاسي


عندما انتُخب نيستور كيرشنير رئيساً للجمهورية عام 2003، بعد انسحاب كارلوس منعم من الدورة الثانية، لم يكن الأرجنتينيّون يعرفون رئيسهم الجديد لأنّه كان حاكم سانتا كروز، وهي ولاية نفطية صغيرة في أقصى جنوب البلاد، محاذية لـ «أرض النار»، ولا تضمّ إلّا 0.5 في المئة من سكان الأرجنتين.
كان قد تمّ اختياره ليكون مرشّح «البيرونيّين»، نسبة إلى الرئيس الراحل خوان بيرون، المعارضين لعودة منعم إلى السلطة. وفي المقابل، كانت كريستينا شخصية معروفة وطنياً ومن أبرز وجوه مجلس الشيوخ المعارضة للرئيس منعم. لذلك، من الظلم اعتبارها «خليفة» الرئيس كيرشنير. كما أنّ وصولها إلى سدّة الرئاسة بعد انتخابات الأحد الماضي، لم يكن ممكناً من دون الإنجازات التي تحقّقت في عهد زوجها. ونجاحها هو أيضاً تتويج لمسار بدآه معاً قبل 35 سنة وتميّز بتقاسم المهمات والأهداف في كل مراحل حياتهما السياسية والزوجية.
فالرئيسة الجديدة (54 عاماً)، هي ابنة راديكالي وبيرونية، أم لولدين، هما من دون شك الولدان الوحيدان في العالم اللذان يستطيعان أن يقولا إن والديهما رئسا الجمهورية. انخرطت، وعيناها مكحّلتان منذ عمر المراهقة، في العالم الطلابي المسيّس لمدينة «لا بلاتا» في سبعينيّات القرن الماضي، عندما كان يريد تغيير العالم.
في كلية الحقوق، تعرفت على شاب آت من الجنوب. تزوجا عام 1975 بعد وقوع الانقلاب العسكري، وكلاهما قريبان من مجموعة الـ«مونتونيروس»، البيرونيّة اليساريّة المتأثر بتجربة الثائر الشيوعي إرنستو غيفارا.
صحبته إلى الجنوب عندما لم تعد «لا بلاتا» مكاناً لعيد طلابي لا ينتهي، بل صارت جحيماً ومقبرة لكثير من أحلامهما وأصدقائهما أيضاً.
عام 1987، ظهرا معاً في الحياة السياسية للمرّة الأولى. هو كرئيس بلدية وهي كنائبة في مجلس الولاية. منذ البداية، يبدو أن هذا هو تقسيم الأدوار الوحيد الممكن بينهما والمطابق لشخصيتهما: هو في السياسة التنفيذية وهي، المسمّاة أحياناً «كريستينا. ك.»، في السياسة التشريعية.
عام 1995، انتخب نيستور حاكماًً لمحافظة «سانتا كروز» وكريستينا مثلت الولاية في مجلس الشيوخ. وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية عام 2003، دخلت هي مجلس النوّاب قبل أن تفوز بمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية بيونس آيرس عام 2005 في خطوة أخيرة مهّدت لترشّحها إلى رئاسة الجمهورية.
في ولاية بانتاغونيا الهامشية، وفي بلد تميّز حتى فترة وجيزة بقطاعه الزراعي، لم تعرّف كريستينا عن نفسها بقناعاتها النسوية بل بتميّزها في أدائها السياسي. صاحبة عقل أكثر تنظيماً من زوجها، اكتملت معالم أدائها السياسي في معارضة كارلوس منعم. تشارك زوجها أفكاره، لا بل هي التي تصيغها وتبلورها. كانت دائماً مستشارته الأولى في كل قراراته السياسية، ومن المرجّح أن يؤدي الآن هو هذا الدور.
الحياة السياسية لقّبت نيستور بـ«البطريق» عندما وصل إلى سدّة الرئاسة، غير أنّه معروف في منطقته بـ«الذئب»: سياسي تقليدي حافظ على قناعات شبابه ويتميّز بصبره لتحقيق أغراضه. له عادات اجتماعية بسيطة ومتقشّفة حافظ عليها حتى في الرئاسة، فيما كريستينا تلفت الأضواء في أهمّ لجان مجلسي النواب والشيوخ.
بدأ نيستور رئاسته بإعادة فتح ملف «ذاكرة الحرب»، وبالتشديد على حقوق الإنسان، محتضناً نضال أمّهات «ساحة أيار»، وكذلك بموقف مقاوم لتوجيهات «صندوق النقد الدولي»، الذي كان وراء أكبر كارثة عرفها الاقتصاد الأرجنتيني. وعرف أيضاً كيف ينظّم الاقتصاد، بمساعدة وزيره روبرتو لافانيا، جاعلاً من كلّ سنوات ولايته نموذجاً قلّما عرفته الأرجنتين من الفائض الضرائبي الموازي لفائض في الميزان التجاري.
واليوم، تشهد الأرجنتين وصول امرأة حديثة وواقعيّة إلى سدّة الرئاسة، لتكملة البناء وتعميقه. خلال ولايتها، سيكون للأرجنتين سياسة خارجية أكثر إقداماً من تلك التي قام بها كيرشنير، الذي لم يهتم كثيراً بهذا الجانب، مكتفياً بالتعاون مع الرئيس البرازيلي لويس أغناسيو لولا دا سيلفا في القارة اللاتينيّة، وبالتحالف مع الرئيس الفنزويلي هيوغو تشافيز، الذي لم يبخل على دعم الأرجنتين اقتصادياً. ومن المرجّح أن تعيد كريستينا نسج علاقات الأرجنتين مع الدول الأوروبية وأن تكرّس جزءاً من وقتها لجلب الرساميل، والأرجنتين بأمسّ الحاجة إليها لمتابعة تعافيها الاقتصادي.
كريستينا هي بالتأكيد، بعد إيفا بيرون (إيفيتا)، ثاني أهم امرأة خرجت من صفوف الحركة البيرونية. غير أنّ المقارنة، إذا توقفت عند هذا الحد، قد تكون مصطنعة. فالأزمان تغيّرت ومعها الشعوب. وتنتمي كريستينا إلى نموذج أقرب إلى صديقتها، المرشّحة لنيل ترشيح «الحزب الديموقراطي» إلى الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، هيلاري كلينتون. ففي البيت الأرجنتيني الذي نجح كيرشنير في انتشاله من الخراب، تأتي اليوم كريستينا بقناعاتها وحداثتها لتكمل المشوار ولتعطي للأرجنتين ولفقرائها تحديداً أملاً جديداً بالمستقبل؛ فالبكاء على أطلال الأمجاد الماضية، عندما كانت الأرجنتين الدولة الرائدة في أميركا اللاتينية وعندما كان يتمتع شعبها بأحد أعلى مستويات معيشة في العالم، لا يكفي.