strong>حسام كنفاني
«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، هذا الحديث لا ينطبق على السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، الذي يبدو أنه لم يكتف من «لدغات» مسار التسوية منذ أوسلو، وها هو يستعدّ لولوج جحر «خريطة الطريق» مجدّداً

بعد ثمانية لقاءات بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت وسلسلة اجتماعات لطواقم المفاوضات من الجانبين، وجولات مكوكية لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، خرجت «خريطة الطريق» مجدّداً إلى العلن إطاراً للحل الفلسطيني المنشود، كأن السنوات الماضية التي عاشها الفلسطينيون معها لم تكن.
المؤتمر الدولي للسلام كان من المفترض أن يكون المرحلة الأخيرة من «خريطة الطريق»، بحسب نصها، الذي تضمّن أن عقده كان سيتم بين عامي 2004 و2005. إلا أن المماطلة الإسرائيلية والشروط الأميركية التي لا تنضب أبقت الخريطة في مراحلها الأولى والثانية، إلى أن خرج الرئيس الأميركي جورج بوش فجأة ليعلن عن مؤتمره الدولي.
عباس ومرافقوه استبشروا خيراً، وبدأوا العمل كأن الدولة الفلسطينية «باتت خلف الباب»، إلا أن التفاؤل ما لبث أن انقلب إلى مماطلة وتسويف، وإعادة العملية السلمية إلى دوامة الشروط الإسرائيلية ـــــ الأميركية على الفلسطينيين في المرحلة الأولى من «خريطة الطريق»، مع إسقاط الالتزامات الإسرائيلية، التي من المفترض أن تكون متوازية مع الإجراءات الفلسطينية.
وتتطلب الخطة في المرحلة الأولى أن «يشرع الفلسطينيون فوراً في تطبيق وقف غير مشروط للعنف»، وهو ما يلتزم به عبّاس منذ انفراده في السلطة في الضفة الغربية، التي يبدو أنها محيدة، إلى حد بعيد، عن الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي، الذي يحتل قطاع غزة الصدارة فيه.
كذلك، تنص الخطّة على «عملية إصلاح سياسي فلسطينية شاملة تمهيداً للدولة بما في ذلك صوغ دستور فلسطيني، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة». وبناء على المسار السياسي الفلسطيني منذ عام 2003، فإن الإصلاح اقتصر على استحداث منصب رئيس الحكومة ودمج الأجهزة الأمنية. والنزاهة الانتخابية لم تعجب الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي، وهو ما تساوق مع عباس إلى حدّ كبير، فأنتجت شرذمة فلسطينية مفتوحة على مزيد من احتمالات التصعيد الداخلي.
الأخطر في «المرحلة الأولى»، والمطلوب من عباس تنفيذه اليوم، جاء في الفقرة الثالثة من الخطة تحت عنوان «الأمن»، ونصّ على أن «يعلن الفلسطينيون بشكل لا لبس فيه وقف العنف والإرهاب، ويقوموا بجهود ملموسة على الأرض لاعتقال وتوقيف وشلّ حركة الأشخاص والجماعات التي تشن وتخطط لهجمات عنيفة على الإسرائيليين في أي مكان». وأن «يبدأ الجهاز الأمني للسلطة الفلسطينية، الذي أعيد بناؤه وتوجيهه، عمليات متواصلة وموجهة وفعّالة تهدف إلى التصدي لكل المشاركين في الإرهاب، وتفكيك القدرات والبنى التحتية الإرهابية. ويشمل ذلك بدء مصادرة الأسلحة غير المشروعة، وتعزيز سلطة الأمن التي تخلو من أي ارتباط بالإرهاب أو الفساد».
هذا النص هو المطلوب حرفياً من السلطة الفلسطينية. وعلى عباس، إذا صحّ «توافقه» مع أولمرت على تطبيق هذه المرحلة، تكثيف عمليات نزع الأسلحة، التي بدأتها حكومة سلام فياض، وتوسيعها لتشمل الأجنحة العسكرية للفصائل غير المنضوية في السلطة الوطنية. وإذا كانت حكومة فياض قد نجحت إلى حد ما في تحييد بعض أجنحة «كتائب شهداء الأقصى»، التابعة لحركة «فتح»، عبر اتفاق وقف ملاحقة المطلوبين، فإن أطرافاً أخرى في الكتائب، إضافة إلى الأجنحة العسكرية لحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لن تسلّم أسلحتها بالسهولة التي يتخيلها عباس وفياض.
المطلوب من عباس إذن، بحسب المرحلة الأولى من «خريطة الطريق»، إدخال قوات الأمن الفلسطينية في حرب أهلية جديدة مع فصائل المقاومة إرضاء لإيهود أولمرت وكوندوليزا رايس، مدعوماً بوعد بتدريب «شركة مقاولات أميركية» لقوات الأمن الفلسطينية، بحسب ما أعلن القنصل الأميركي في القدس المحتلة جاكوب والاس أول من أمس.
مثل هذه المواجهة لا تترافق مع إجراءات جدية أميركية وإسرائيلية للمضي قدماً في عمليات السلام، التي جعلها عباس خياره الأول والأخير. وكان من المفترض أن يستغل أبو مازن هذه الفصائل بصفتها خطاً خلفياً للمسار التفاوضي، وهو ما لم يحدث. وإذا خاضت السلطة هذه الحرب، فستترك ظهرها مكشوفاً لمزيد من التعنت الإسرائيلي والأميركي، كالذي أعلنت عنه واشنطن أول من أمس برفضها طرح الجداول الزمنية في مفاوضات السلام النهائية.
في المقابل، لا تبدو الالتزامات الإسرائيلية في المرحلة الأولى من «خريطة الطريق» واضحة للعيان، لا في تصريحات مسؤولي الدولة العبرية، ولا في تعقيب مسؤولي السلطة الفلسطينية على «هذا التوافق».
وبحسب نص المرحلة الأولى، «تقوم إسرائيل بكل الخطوات اللازمة للمساعدة في إعادة الحياة الفلسطينية إلى طبيعتها، فتنسحب من المناطق الفلسطينية التي احتلت بعد 28 أيلول عام 2000، ويعود الجانبان إلى الوضع الذي كان قائماً قبل هذا التاريخ مع تقدم الأداء والتعاون الأمنيين. وتجمد إسرائيل أيضاً جميع الأنشطة الاستيطانية ونزع النقاط الاستيطانية غير القانونية». كذلك «تصدر القيادة الإسرائيلية بياناً واضحاً لا لبس فيه تؤكد فيه التزامها برؤية الدولتين ودولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة وذات سيادة تعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل وتدعو إلى وقف فوري للعنف ضد الفلسطينيين في أي مكان»، وتوقف «مصادرة أو هدم المنازل والممتلكات الفلسطينية أو كليهما كإجراء عقابي أو لتسهيل أعمال البناء الإسرائيلية، وتدمير المؤسسات والبنى التحتية الفلسطينية».
هذه الالتزامات الإسرائيلية لم تجد طريقها إلى التنفيذ، فعمليات القتل مستمرة، والاستيطان في توسّع، والوضع ما بعد 28 أيلول 2000 لم يعد إلى ما قبله، والحواجز الثابتة والمتنقلة والمعابر تعوق الحياة الفلسطينية والتنقل بين أجزاء الضفة الغربية، من دون التطرق إلى الوضع الخاص لقطاع غزة والحصار الخانق الذي يعيشه، والذي حوّله إلى أكبر سجن في العالم.
لم يلتفت مفاوضو عباس إلى الإضاءة على هذه الالتزامات الإسرائيلية، بل ساروا عملياً في المطلوب منهم، وبدأوا بالحديث عن تسلّم الأمن في نابلس ونزع الأسلحة منها، وما إلى ذلك من إجراءات «حسن السير والسلوك» لمحاولة التماس شهادة دولية تعترف بالوجود الفلسطيني.
إنه الوهم الذي يلاحقه الرئيس الفلسطيني وفريقه منذ الإعلان عن المؤتمر الدولي للسلام إلى اليوم، ولم تكن دلائل الفشل المتلاحقة كافية لفريق السلطة للخروج مبكراً من «لعبة السلام» التي تديرها إسرائيل والإدارة الأميركية، بل قرر العودة إلى نقطة الصفر، والبدء مجدّداً بـ«خريطة الطريق».
وبما أن العودة إلى المرحلة الأولى باتت أمراً واقعاً، فلا شيء يمنع أيضاً إعادة إحياء المرحلة الثانية، التي تنص على «إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود مؤقتة»، والدخول مجدّداً في متاهة لا نهاية لها، لن توصل هي أيضاً إلى «الوضع النهائي».