بروكسل ــ بسّام الطيارة
إشارات كثيرة تدل على الخطر الذي يتهدّد بلجيكا، أبرزها دعوة الملك ألبير الثاني أخيراً إلى انعقاد «مجلس شورى العرش»، وهو حدث استثنائي في تاريخ البلاد، إذ لم ينعقد هذا المجلس إلا خمس مرات منذ الاستقلال عام ١٨٣٠، كان آخرها عام ١٩٥٠ لإقرار استقلال المستعمرة الأفريقية «الكونغو البلجيكية» عن العرش.
ورغم أن هذه الدولة الأوروبية الصغيرة جغرافياً (30,528 كيلومتراً مربّعاً) اعتادت الأزمات الحكومية بسبب تركيبتها الديموغرافية والإثنية المعقّدة، إلا أنها المرة الأولى التي تصل فيها الأزمة إلى حدّ التلويح الصريح بانفصال مقاطعة فلاندر الغنية.
وتفاقمت الأزمة بعد الانتخابات الأخيرة في ٢٠ حزيران الماضي، التي شهدت نجاح حزب «الديموقراطيين المسيحيين» (الفلاندري) وحلفائه الفرانكوفونيين (والوني)، والتي أدّت إلى دعوة الملك زعيم الحزب إيف لوترم إلى تأليف حكومة لم ينجح في تشكيلها، بسبب الخلافات بين حزبه وحلفائه الليبراليين، ما دفعه إلى الاعتذار عن المهمّة بعد شهرين من المحاولات البائسة. وهذا ما أجبر الملك على تكليف رئيس البرلمان هيرمان فان رامبوي (فلاندري) أمس المهمّة ذاتها.
وبحسب العرف الدستوري السائد في البلاد، فإنّ الرابح في الانتخابات يجب أن يؤلّف حكومة «متجانسة طائفياً ولغوياً»، بحيث تضمّ جناحي الأحزاب الرابحة الوالونية والفلاندرية. إلا أن الخلاف بين المجموعتين وصل أخيراً إلى داخل التحالف الذي ربح الانتخابات، والذي عجز عن الاتفاق في ما بين مكوّناته، وبالتالي تعذّر الوصول إلى برنامج لحكم البلاد.
وتعود بذور الخلاف إلى البرنامج الانتخابي، الذي يصفه البعض بأنه «متطرّف»، والذي قامت عليه حملة الديموقراطيين المسيحيين، وكذلك مطالبته بإصلاحات جذرية للدولة الفيدرالية، بحيث تُنقل العديد من صلاحياتها المركزية إلى المقاطعات، وتوسَّع صلاحيات برلماناتها لتستطيع التشريع في حقول كانت من اختصاص الحكومة في بروكسل، مثل القطاع الصحي والنظام الضرائبي، وصولاً إلى حقّ سن قوانين جديدة للتجنيس.
ويعارض الفرانكوفونيون، في المقاطعات الوالونية والعاصمة بروكسل، هذا التوجّه الذي يقولون إنه «يعرّض الوحدة البلجيكية لمخاطر الانشقاق» ويندّدون بـ«انعزالية الفلاندر».
وكشف هذا البرنامج عمق الشرخ الذي يفصل بين المجموعتين السكانيتين؛ فمقاطعة الفلاندر الغنيّة اقتصادياً، لم تعد تريد تغطية عجز المقاطعة الوالونية التي تعيش حالة كساد اقتصادي بعد توقّف مناجم الفحم فيها عن العمل، وتراجع صناعاتها المعدنية. ومن المعروف أن الفلاندريين يتهمون الفرانكوفونيين بـ«الكسل وعدم التأقلم مع واقع بلجيكا الاقتصادي الجديد». وقد خرجت بعض التصريحات «العنصرية» لتصّب الزيت على نار الصراع بين الطائفتين.
ويرى مراقبون أن النظام الفيدرالي لم ينجح في إعادة توزيع الثروات بشكل عادل في المقاطعات الثلاث، وخصوصاً في ظل الاختلافات الكبيرة في العادات الاجتماعية بينها؛ ففي مسألة المهاجرين على سبيل المثال، فإن المقاطعة الفرانكوفونية، وبدرجة أقلّ في إقليم العاصمة، أكثر انفتاحاً على تسهيل الهجرة الوافدة. وبعد حصول المهاجرين على الأوراق القانونية، فإنّ معظمهم ينتقلون إلى مقاطعة الفلاندر حيث فرص العمل متوافرة.
ويتّهم الفلاندريون المتطرّفون مسؤولي المقاطعتين بتسهيل دخول الأجانب، وخصوصاً العمّال من أصول عربية وإسلامية، ما يزيد من قوة الأحزاب اليمينية التي تلعب على وتر العنصرية و«الخوف من الإسلام».
كما أنّ الأزمة الاقتصادية الحادّة التي تعيشها المقاطعة الوالونية جعلت مستوى النظام الصحي والتربوي في حالة إفلاس، ما يدفع سكّان المقاطعتين للتوجّه إلى مستشفيات المقاطعة الشمالية الغنية، ولا تسمح القوانين الحالية برفض تقديم الخدمات الصحية لهم.
إلا أن ما يزيد من حدّة الأزمة ويعرّض «مستقبل المملكة للخطر»، هو أنه في مقابل تماسك الأحزاب الفلاندرية، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، واتفاقها على «ضرورة الانتهاء من حالة الفوضى في العلاقات الدستورية التي تربط بين المقاطعات»، فإن «الجبهة الفرانكوفونية» غير متماسكة، وبدأت تظهر فيها دعوات إلى «استقلال المناطق الفرانكوفونية» وعدم الخضوع «للشوفينية الفلاندرية»، حتّى إنّ بعض الأحزاب القومية الوالونية تطالب بالانضمام إلى فرنسا، بينما تطالب الأحزاب القومية الفلاندرية بالانضمام إلى هولندا.
وتذكّر هذه الأزمة بنشأة بلجيكا حين كانت هولندا وفرنسا تتقاسمان أراضيها، وهما اللتان شنّتا حروباً ضارية من أجل توسيع سيطرتهما عليها. ويرى البعض أن «النزعة الاستقلالية» اليوم في ظل الاتحاد الأوروبي، لم تعد شعاراً معيباً، لأنّ قسماً كبيراً من مقدّرات الدول الأعضاء باتت تقرَّر في الدوائر الأوروبية التي تشرف بشكل غير مباشر على معدلات النمو فيها، وتقرّر ميزانيات المساعدات لها.
ويبدو أنّ التجربة الإسبانية، التي أظهرت إمكان إعطاء حق تقرير الشؤون لمقاطعاتها بشكل واسع جداً، من دون أن تهدّد وحدة البلاد، قد أشعلت حميّة المطالب الفلاندرية للاحتفاظ بمكاسب النمو القوية لمقاطعتهم، تاركين مساعدة «مواطنيهم الفرانكوفونيين» للاتحاد الأوروبي الذي جعل من بروكسل عاصمة إدارية له.
ق البلاد. وهذا ما يفسّر وجود لغتين رسميتين في بلجيكا.