لا يمكن أبداً النظر إلى إعلان العديد من الدول الكبرى الحليفة للولايات المتحدة أو الدول القابعة تحت مظلتها العسكرية عزمها على الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية AIIB كفشل دبلوماسي ظرفي للولايات المتحدة التي شنت حملة شعواء لثني تلك الدول عن الانضمام إلى البنك الوليد، بحجة حكمها المسبق بأنه سيخفض معايير «الحوكمة والشفافية» في تمويل «مشاريع التنمية»، قياساً على ما تقوم به مؤسساتها، وأبرزها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تجد نفسها الآن إزاء منافسة جدية تكسر احتكارها الذي دام عقوداً من الزمن.
البنك المذكور هو مشروع صيني يهدف بالأساس إلى تمويل ما يمكن اعتباره مشروع القرن، أي «طريق الحرير الجديد»، وهو شبكة من الطرق والسكك الحديد والموانئ (ومحطات الطاقة) التي تصل مناطق شرق آسيا وجنوب شرقها بعضها ببعض وبأوروبا، براً عبر وسط آسيا، وبحراً عبر سلسلة من الموانئ انطلاقاً من شرق وجنوب شرق آسيا، تكون بمنأى عن السيطرة الأطلسية؛ وستكون الصين في القلب من الشبكة البرية والبحرية هذه. بالتالي، فإن الانضمام إلى البنك الجديد يعني عملياً معانقة المشروع الأكبر والأخطر للتنين الصيني.
بات واضحاً أن ما نشهده راهناً هو نتيجة رفض الولايات المتحدة تكييف مؤسسات النظام العالمي الذي أنشأته مع نهاية الحرب العالمية الثانية لكي تستوعب متغيرات العصر الجديد وحقائقه، عصر صعود أوراسيا الاقتصادي والعسكري والسياسي. تحاول الولايات المتحدة منذ أكثر من عقد من الزمن التعويض عن تراجعها الاقتصادي والعسكري النسبي إزاء القوى العالمية الصاعدة بغزوات عسكرية ترمي إلى تأبيد هيمنتها الأحادية المطلقة؛ وفيما لم تحقق اندفاعتها العدوانية فعلياً سوى المزيد من التدمير والقتل، اختارت أن تتعامى عن إرهاصات «القرن الأوراسي الجديد»، حتى أتى هذا الأخير ليصفعها في وجهها.
بعد ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، انضمت أوستراليا وتركيا ومصر وحتى كوريا الجنوبية وتايوان إلى قائمة حلفاء واشنطن الذين طلبوا الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية AIIB قبل نهاية شهر آذار، الموعد الذي حددته الصين كمهلة أخيرة لانضمام الدول كأعضاء مؤسسين للبنك الذي ترى فيه الولايات المتحدة تحدياً لهيمنتها المالية العالمية المتمثلة عبر مؤسسات كصندوق النقد والبنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي ADB الذي تقوده اليابان. وإذا كان متوقعاً أن تبدي روسيا والبرازيل وحتى أندونيسيا رغبتها في الانضمام إلى البنك الجديد، فقد كان لافتاً جداً إعلان تايوان، على لسان رئيسها ما ينغ - جيو، رغبتها في "عدم البقاء على الهامش" والانضمام إلى البنك، رغم أن الصين تعارض تقليدياً انضمام الجزيرة التي تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها إلى المؤسسات الدولية، ورغم أن الجزيرة تعتمد على المظلة العسكرية الأميركية للحفاظ على «استقلالها» عن البر الرئيسي الصيني (أعلنت الصين رفضها طلب تايوان الانضمام إلى البنك، تماشياً مع سياسة «الصين الواحدة»)! ولا يقل دلالة خيار كوريا الجنوبية الانضمام إلى البنك، فهي وازنت بين حاجتها إلى المظلة العسكرية الأميركية من ناحية، ومصالحها مع الصين، شريكتها التجارية الكبرى، من ناحية أخرى، فاختارت الأخيرة. وثمة من يشير في هذا السياق إلى أن قبول كوريا الجنوبية نصب الصواريخ البالستية الأميركية THAAD على أراضيها، رغم الاستنفار الصيني والروسي والتوتر الشديد الذي صاحب ذلك، أتى بمثابة «تعويض» عن مخالفتها الرغبة الأميركية في البقاء بعيداً عن المشاريع الصينية الآنفة الذكر. وفي السياق، أعلنت وزارة المال الكورية الجنوبية أن قرار الحكومة الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية كعضو مؤسس جاء بعد إجابة الصين عن عدد من المخاوف المثارة (أميركياً) بشأن «الحوكمة» في البنك الوليد، مشيرة إلى هوة في تمويل المشاريع التنموية في آسيا تقدر بـ8 تريليونات دولار، بحسب بنك التنمية الآسيوي ADB نفسه. كما أعلنت وزارة الخزانة التركية أنها تقدمت بطلب للانضمام إلى البنك نفسه، وأنها تتوقع أن تنهي مفاوضات الانضمام بنهاية العام الجاري، لتلتحق بقائمة الدول الأطلسية التي شقت عصا الطاعة الأميركية.
وقد صرح رئيس الحكومة الأوسترالية ووزيرا المال والخارجية في بيان مشترك «أن تقدماً كبيراَ أنجز في ما يتعلق ببنية المصرف (الجديد) وحوكمته وشفافيته في الأشهر الأخيرة، لكن لا تزال هناك مسائل عالقة سنبحثها في مفاوضات». وفيما أشار البيان إلى أن «المشاكل الرئيسية الواجب حلها، قبل أن تفكر أوستراليا في الانضمام الى البنك، تتعلق بصلاحية مجلس إدارة المصرف بشأن القرارات الأساسية للاستثمار ووجوب أن لا يسيطر أي بلد على المصرف»، أوضح أن الحكومة ستوقع على بروتوكول اتفاق يسمح لها بالمشاركة في المفاوضات بصفتها عضواً مؤسساً محتملاً للبنك الذي يهدف الى تمويل أشغال البنى التحتية في آسيا، لافتاً إلى أن البنك الجديد «يملك القدرة على لعب دور هام في مواجهة الاحتياجات في البنى التحتية وتسريع النمو الاقتصادي الإقليمي».
أما الرئيس الأندونيسي جوكو ويدودو، فقد أعلن أن بلاده «تدعم بقوة» المشروع الصيني لإنشاء بنك استثمار إقليمي جديد، وترى أن من شأنه أن يدعم الاستقرار في المنطقة. كما أعرب ويدودو عن أمله بأن تنجز بلاده اتفاقاً مع الصين لتبديل العملات، وتحقيق تجارة ثنائية بقيمة 150 مليار دولار بحلول عام 2020، وإعفاء المواطنين الأندونيسيين من تأشيرة الدخول إلى الصين، أسوة بما فعلت أندونيسيا، وتوسيع التبادل السياحي إلى 10 ملايين سائح في العام المقبل. وأعلن ويدودو توقيع 8 اتفاقات مع الصين يوم الخميس الماضي، تشمل اتفاقية تجنب الازدواجية الضريبية، والتعاون الثنائي في مشروع بناء قطار سريع، وأيضاً في مشاريع الطيران والفضاء. بل ذهب ويدودو أبعد من ذلك، فتحدث في معرض دعوته الرئيس الصيني شي جينبينغ لحضور الذكرى الـ60 للمؤتمر الآسيوي الأفريقي أو مؤتمر باندونغ الشهر المقبل، عن «المشاكل التي تحدث في العالم بسبب استعمال القوة لحل الأزمات، كما في العراق وسوريا وليبيا»، مشيراً إلى رمزية المؤتمر وأهميته في خلق هوية مشتركة بين الأمم النامية التي كانت حينها تتحرر للتو من الاستعمار الأجنبي!
وإذا كانت تلك حال الدول «الصديقة» والتابعة لواشنطن، فلا غرابة في إعلان البرازيل، زميلة الصين في منظمة دول «البريكس»، أنها «حريصة جداً» على الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، معلنة قبولها الدعوة الصينية في هذا الصدد «من دون شروط»، كما جاء في بيان للرئيسة البرازيلية ديلما روسيف. أما نائب رئيس الوزراء الروسي ايغور شوفالوف، فقد أعلن اتخاذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراراً بمشاركة روسيا في رأس مال البنك الجديد، معرباً عن سروره بترسيخ التعاون بين الصين والاتحاد الاقتصادي الأورو - آسيوي، وهو منطقة التبادل الحر التي شُكلت بمبادرة من بوتين بين روسيا وكازاخستان وأرمينيا وبيلاروسيا، ودخل حيز التنفيذ في كانون الثاني الماضي.
وفي السياق، تجدر الإشارة إلى إعلان الرئيس الصيني في 29 آذار توقعه أن تتجاوز التجارة مع الدول المشاركة في خطة بكين لإنشاء «طريق الحرير الجديد» 2.5 تريليون دولار خلال عشرة أعوام؛ كما قال في اليوم السابق إن بلاده سوف تستورد سلعاً بقيمة تفوق 10 تريليونات دولار في السنوات الخمس المقبلة، لـ"يستمر الاقتصاد الصيني بتحقيق المزيد من فرص التجارة والنمو والاستثمار والتعاون لبلدان أخرى في آسيا وخارجها". وأعلن شي أنه في السنوات الخمس المقبلة، سيتجاوز الاستثمار الصيني في الخارج 500 مليار دولار، وسيبلغ عدد السائحين الصينيين الذين يجوبون العالم أكثر من 500 مليون، وذلك في افتتاحه المؤتمر السنوي لمنتدى «بوآو الآسيوي لعام 2015» الذي انعقد في مقاطعة هاينان أقصى جنوب الصين، تحت شعار «المستقبل الجديد لآسيا: نحو مجتمع المصير المشترك»!