طهران | عندما عبقت قاعة اللقاء في جنيف بالخلافات، قبل أشهر، بين وزيري خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية، فضّل الطرفان أخذ استراحة. ولكن لضيق الوقت، تقرّر أن يتمشى الوزيران على ضفاف البحيرة. عدسات المصورين لاحقت رأساً الدبلوماسيين المتخاصمين سياسياً في كل الملفات، إلا النووي، لتسجّل صورة أثارت الكثير من الانتقادات في طهران، كيف لظريف أن يتمشى على شواطئ «بحيرة العشق» إلى جانب جون كيري؟ هنا، تقطّعت السبل بمحمد جواد ظريف لدى عودته إلى طهران، برّر الأمر بضيق الوقت والحاجة إلى المباحثات المكثفة أينما كانت.
كلامه أقنع البعض، إلا أن معسكر المحافظين لم تعجبهم هذه الصورة التي اعتبروها إهانة لمشاعر الصمود الإيراني لما تمثلهّ من لامبالاة، على حدّ تعبيرهم. وقع ظريف في محظور الثقافة الإيرانية. دبلوماسياً، كانت النزهة عادية وربما حلّت بعض المشاكل في الهواء الطلق، وما خفف من وطأتها اعترافات غربية وأميركية بأن إسرائيل تسترق السمع.
في إيران مثل شائع جداً، يقول «ديوار موش داره، موش گوش داره»، ما معناه «في الحائط فأرة وللفأرة آذان». عاصفة النزهة الدبلوماسية هدأت، ليظهر في اليومين الأخيرين تعاطٍ إيراني جديد. ظريف، بناءً على انتقادات صحافية في بلاده، عمل بالنصيحة وخفّف من مستوى توزيع الابتسامات مع الجانب الأميركي، إلى أن جاء دور التجهّم على وجه وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال الاجتماع الوزاري الموسع للسداسية الدولية مع إيران، أول من أمس. الطاولة كما وزّعت على الوفد كانت معبّرة، حيث جلس على رأسها محمد جواد ظريف ورئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي إلى جانب منسقة السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي فدريكا موغريني. الجانب الإيراني اصطفّ على جانب من الطاولة، بداية بالمستشار الخاص للرئيس الإيراني حسين فريدون وهو اليد اليمنى للرئيس، وشقيقه الذي أسهم في قيادة حملته الانتخابية، ثم مساعد وزير الخارجية عباس عراقجي، إلى آخر الوفد. في المقابل، جلس أولاً وزير الخارجية الصيني وإلى جانبه وزراء خارجية: فرنسا، ألمانيا، روسيا، بريطانيا والولايات المتحدة. جون كيري كان على آخر الطاولة، قبل وزير الطاقة الأميركي ومساعدته وندي شيرمن، وفي مقابله كان أعضاء الوفد الإيراني من الحقوقيين والمتخصصين في شؤون القانون الدولي والعقوبات ومسجلي المحاضر، فكأنما أُريد صدفة أن يقال للأميركي العقدة هنا في العقوبات ولا يحلّها إلا التفاوض مع هؤلاء. عانى جون كيري ليستمع إلى نظيره الإيراني الذي يبعد عنه مسافة، من أول الطاولة إلى آخرها. وبالحديث عن الطاولة، نفتح قوسين لهذه المسألة، فإن شكلها أيام المفاوض السابق سعيد جليلي كان مختلفاً. في إحدى الجلسات، كانت الطاولة مستطيلة، جلس الإيرانييون من جهة والسداسية الدولية في الطرف المقابل، حينها فسّر توزيع المقاعد بالاصطفاف المضاد، الغرب مقابل إيران. فما كان من المنظمين في روسيا والعراق وكازاخستان التي استقبلت مفاوضات نووية، إلا أن سعت إلى جعل الطاولة مستديرة بتوزيع متوازن للمقاعد، ما اعتبر رسالة حوارية بدل الطاولة التصادمية.
أما بالعودة إلى أسباب تجهّم كيري وتشابك يديه في كل الصور الملتقطة له قبل بداية الجلسة، فتعود إلى وصول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف متأخراً. الاجتماع كان مقرراً عند الساعة التاسعة بتوقيت لوزان، وصل لافروف متأخراً حوالى عشر دقائق وجلس في منتصف الطاولة، فكان الانزعاج الأميركي استكمالاً للانتقاد اللاذع الذي أبداه لافروف عند وصوله إلى لوزان. فقد أخّر سفره من يوم الجمعة إلى الأحد. ولدى وصوله إلى الفندق، سأله إعلامي «هل أنت متفائل؟»، فأجاب باقتضاب وبلهجة تهكمية ساخرة «أنا لا أتقاضى راتباً كي أعرب عن تفاؤلي». عبارة أزاحت ستار النوم عن جفني جون كيري، الذي انتظر بفارغ الصبر وصول لافروف المتأخّر إلى قاعة الاجتماع، ولم يستطع كبت الإهانة فتوجّه إلى لافروف قائلاً: «يبدو أنك لا تتقاضى راتباً كافياً، لتعرب عن تفاؤلك». عبارة مرّت على عجل، ليخرج رجل الخارجية الروسي من الاجتماع متجاهلاً الأطراف الغربية، قائلاً «سأغادر وأعود عندما يتم الاتفاق»، في رسالة واضحة أن موسكو على توافق مع طهران، والحرب التي بدأت في جورجيا قبل أعوام وتستمر في أوكرانيا ما زالت مستعرة، وخصوصاً أن الجمهورية الإسلامية دعمت روسيا في كل توجهاتها، وبنت حلفاً قوياً على اعتبار أن خطر العقوبات يجمعهما، فكان الرد الروسي قاسياً على الأميركيين بالعبارات والكنايات والتصرف، ووضع الوفد الأميركي في مواقف محرجة كانت بعيدة عن الإعلام في دلالات واضحة على عمق الشرخ بين واشنطن وموسكو، والذي ظهرت معالمه في لوزان.