نيويورك ـ نزار عبود
الدورة الثانية والستون للجمعية العامة للأمم المتحدة تنطلق غداً، فماذا ينتظر العالم منها؟ وما الذي تستطيع تحقيقه؟ الأمم المتحدة تسعى لاستعادة ثقة مفقودة من الشعوب، وتدخل تعديلات وإصلاحات كثيرة في الوثائق؛ فإلى أي مدى ستنجح بعدما بات يُنظر إليها على أنها طرف وليست المحكمة


من الزاوية النظرية، يفترض أن تكون الجمعية العامة سلطة تشريعية مركزية في الأمم المتحدة، التي تأسست في عام 1945. وهي تتمتع بقاعة ضخمة مهيبة، تعد الأكبر بين قاعات المنظمة الكثيـــــــرة. قاعة تستخدم أحياناً للحفلات الموسيقية والعروض الفنية الراقية. إلا أنها في حقيقة الأمر تحولت إلى منبر أساسي لمن لا يملك منبراً في مجلس الأمن الدولي. أما أهميتها التشريعية فتتجلى في وضع المعايير والقوانين الدولية التي يبنى عليها. ولقد تضخم عدد أعضاؤها من 51 عند إنشائها إلى 192 حالياً. وهذا يعني أن عدد الدول النامية يزداد باستمرار لدرجة أن مجموعة السبعة والسبعين باتت تضم 130 عضواً، وإن كان اسمها لا يزال على حاله. تدوم دورة الجمعية العامة سنة كاملة من أيلول إلى أيلول. لكن الجلسات الرئيسة تتم بين أيلول وكانون الأول من كل عام. ويجري انتخاب رئيسها من الدول الأعضاء الـ192، لذا لم يعد غريباً أن يأتي من الدول الصغيرة، لكون الدول الكبرى لديها منبرها الثاني الأهم. ولأن رئيس الجمعية العامة مجرد رئيس فخري لا وزن معنوياً كبيراً لكلمته، لا تحدث معركة حقيقية لانتخابه. بينما الكل يذكر المعركة الضخمة التي خاضتها فنزويلا العام الماضي في وجه الولايات المتحدة حتى تم الاتفاق على مندوب بنما مرشحاً وسطاً لعضوية غير دائمة في مجلس الأمن لمدة عامين.
الرئيس الحالي للدورة 61 هي الشيخة هيا راشد آل خليفة من البحرين. في حين أن الرئيس الجديد سارجان كريم (من مقدونيا) كان يشغل منصب وزير خارجية يوغوسلافيا السابقة. وهذان الاختياران يعبّران كثيراً عن سهولة أن يأتي الرئيس من دولة ضئيلة الشأن في المحافل السياسية، ذلك أن المنافسة على هذا المنصب تكاد تكون معدومة.
افتتاح الجمعية العامة في دورتها الـ62 لن يختلف هذا العام عن أي عام مضى. فعاليات عديدة تنطلق في 18 أيلول الجاري، لكن رؤساء الدول سيلقون كلماتهم في الحشد الكبير الذي يقام في قاعة الجمعية العامة في 25 أيلول. وهو أكثر المناسبات جلباً للانتباه. فالرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز قام العام الماضي بشم المنبر الذي ألقى منه الرئيس الأميركي جورج بوش خطابه قائلاً، «هنا جلس الشيطان، لا تزال رائحة الكبريت تفوح من المكان».
في هذه السنة سيراقب العالم ما سيقوله العديد من الزعماء المثيرين للجدل، وأبرزهم جورج بوش. وفي 4 و5 تشرين الأول، ستعقد الجمعية العامة حواراً عالي المستوى يتعلق بموضوع «التفاهم والتعاون بين الأديان والثقافات من أجل السلام». يليه برنامج رفيع المستوى عن الحوار من أجل تمويل التنمية سيقام في 22 و23 تشرين الأول. وهناك جلسة بكامل الأعضاء لمتابعة موضوع الطفل، تعقد في 11 و12 كانون الأول
2007.
أما موضوعات الدورة الرئيسية فتتلخص بتبدل المناخ، وتمويل التنمية، وتطبيق استراتيجية مكافحة الإرهاب، والإصلاح الإداري، ومتابعة الإجراءات المتعلقة بتطبيق مبادئ إعلان الألفية المتفق عليه دولياً.
إلى جانب هذه الأمور، ستواصل الجمعية العامة متابعة موضوع إصلاح مجلس الأمن الدولي بهدف توسيعه للمرة الثانية منذ نشأة الأمم المتحدة. آخر مرة جرى التوسيع في 1965 عندما رفع عدد الدول غير الدائمي العضوية من 6 إلى عشرة. لكن هذه الدول استطاعت بتضامنها أن تغير الكثير من القرارات التي كان يمكن أن تكون أكثر جوراً لو تركت على حالها. وهناك موضوع اللحمة العامة في نظام عمل المنظمة، وتنشيط الجمعية العامة، وموضوعا التنمية المستدامة ومكافحة الأيدز.
الموضوعات عالمية بالتأكيد. فهي لا تعترف بالحدود. ومخاطرها تحدق بالإنسانية جمعاء. لكن المشكلة تكمن دوماً بالتوفيق بين العالمي والإقليمي والوطني.

المجتمع المدني

برنامج مهرجان الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا العام حافل بالخطب الإثنية، التي غالباً ما تعبر عن واقع الصراع العالمي المرير بين المطلوب والمتاح، وبين مصالح الشعوب ومصالح الحكام. وكثيراً ما ينتهي المهرجان بترداد أفضل المقاطع الصوتية في قنوات التلفزة العالمية، ويعود كل إلى أهله.
الدولة الأقدر مادياً وسياسياً بعد نهاية الحرب الباردة تقول للآخرين: تستطيعون أن تختاروا كل شيء في هذا المبنى التاريخي الضخم، لكنّ أي تغيير فعلي في لعبة الأمم لن يتم إلا باختياري وفي التوقيت الذي يناسبني. وسيتم فقط إذا انسجم مع مصلحتي ومصلحة إسرائيل.
هذه الحقيقة لم يعد يضطر أحد للعب عليها أو التملص منها؛ فاللعب بات في الأمم المتحدة على المكشوف. وعندما يسعى الأمين العام بان كي مون إلى تخفيف حدتها، يتحدّث عن مشاركة أوسع للمنظمات غير الحكومة (NGO)، التي عجت قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة بها في الأيام الماضية أثناء عقد مؤتمر عن تحديات الطبيعة وتغير المناخ. وهو مدخل في غاية الأهمية لكونه يمس جوهر الأمم المتحدة على المدى البعيد.
كان الرئيس الأميركي الراحل جون كندي يقول: «خير وأسلم للعالم أن تبقى الدولة الكبرى في الأمم المتحدة متمتعة بحق النقض (الفيتو) من أن تغادرها وتقرر اتخاذ قراراتها على هواها». وهذا هو بالتحديد ما فعلته واشنطن عندما قررت شن الحرب على العراق قبل أربعة أعوام من دون نيل موافقة الأمم المتحدة.
لكن في موضوع الطبيعة والخطر المحدق بسكان كوكب الأرض، تتداخل السياسة بالاقتصاد مع حب الطبيعة ورومانسية الشعراء. ويعد تقبّل دور أكبر للجمعيات والمنظمات الشعبية، أو ما يسميه البعض منظمات المجتمع المدني في الأمم المتحدة، ولو كمراقبين مشاركين في النقاش، نقلة نوعية في عملية الإصلاح البطيئة في المنظمة الدولية. إذ برهنت العقود الأخيرة أن المنظمات الشعبية تستطيع تحريك شارع يدافع عن السلام والطبيعة ويحتج على الرأسمالية الجشعة، سواء في قمم مجموعة الثماني الاقتصادية والسياسية، أو في مؤتمرات العولمة الاقتصادية.
ومن المتوقع أن توصل الجمعيات رسالتها في قمة بالي المزمع عقدها في كانون الأول المقبل عن البيئة وتبدل المناخ. هذه المنظمات أحدثت شقوقاً في صناديق الاقتراع منذ السبعينيات، ولا سيما في أوروبا. خير مثال ما جرى في ألمانيا بعدما أصبح حزب الخضر تياراً سياسياً رئيسياً في اللعبة الانتخابية، وما يتمخّض عنها من تحالفات. يليه النموذج البريطاني وحركة مناهضة الحرب النووية وأسلحتها ومعها تحالف «أوقفـــــــوا الحرب»، الذي لم يفقد زخمه. ولــــقــــــــد تمكن هذا التحالف من تحريك شارع مؤثّر في الصيف الماضي وتغيرت سياسات كثيرة في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا بفضل حركة المنظمات المماثلة التي بات البعض في الإعلام الأوروبي يفسرها بظاهرة معاداة إسرائيل.
في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، وقبل قمة الرؤساء، ينظم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون جلسة للجمعية العامة بعنوان: «المستقبل بين أيدينا: معالجة تحديات القادة في موضوع تبدل المناخ». وهو المحور الأساسي لنقل قضية البيئة إلى الشارع عبر أوسع منابر الأمم المتحدة. لكن يبقى الأمر الأساس المفقود من كل دراسات العلماء ورجال السياسة في موضوع البيئة الربط العلمي بين الحروب وسخونة الكوكب. وعندما يتمّ هذا الربط بشكل ثابت، ستتّحد المنظمات المدافعة عن الطبيعة مع تلك الداعية للسلام في تحالف من شأنه أن يغير الكثير في العالم.
حتى الآن، لا يتحدث العلماء عن آلاف القنابل النووية التي فجرت في الغلاف الجوي وفي قاع المحيط ودمرت البيئة، ولا عن ملايين الأطنان من المتفجرات التي استخدمت في كل الحروب التي شهدها العالم منذ مطلع القرن العشرين، وكميات الوقود التي أحرقت لإنتاج الصناعات الحربية وتشغيلها.
عناصر الجمعيات الشعبية يتدفقون على مبنى المنظمة الدولية ويشاركون كمراقبين في اجتماعات الجمعية العمومية والحلقات الدراسية المنبثقة منها ويقدمون دراساتهم الميدانية التي بات يستشهد بها بصدقية تزيد على دراسات الأمم المتحدة نفسها. لكنهم قياساً بالدبلوماسيين المخضرمين، يبدون كأشبال الكشافة في مقابل جنرالات الجيش. وغالباً ما يصاب هؤلاء بالإحباط في لعبة الجدل البيزنطي التي يتقنها المحترفون من مندوبي البعثات المزودين بأفضل رجال القانون.