نيويورك ــ نزار عبود
تفشّي البيروقراطيّة يشجّع «الخمول» والهدر وغياب المحاسبة يعزّز القوى المهيمنة


لم يكن الكثير من الأمناء العامين غافلين عن مخاطر انحدار الأمم المتحدة إلى الهاوية نفسها التي انزلقت إليها عصبة الأمم، ولا سيما أن حلم انتخاب أعضاء هذه المنظمة من قبل الشعوب ظل سراباً طوباوياً.
الأمم المتحدة تبدو حكومة الحكومات تحت سيطرة الطرف الأقوى. ولما كانت قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، فإنها تشبه النوافل، مستحبّة لكنها ليست فرائض.
الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان حمل في ربيع 2005 على الجمعية العامة التي تعير التوافق اهتماماً يطغى على أهمية القضايا، التي يتم اعتمادها. وفكرة التوافق بين الحكومات تشبه الخروج بوجبة شيطانية لا تصلح لأي معدة. وطالب أنان بالخروج على العمومية والانتقال إلى القضايا المحددة التي تعني كل إنسان. وأعطى أمثلة على ذلك: قضايا الهجرة، تعريف الإرهاب، تعزيز دور رئيس الجمعية العامة وتسهيل جدول عملها وتركيبة لجانها، وتقوية دورها في اختيار رئيسها. وأشار إلى أهمية تطبيق الإصلاح إذا أرادت الجمعية العامة أن تصبح فعالة.
ومنذ الدورة 58، والكلمة السحرية السائدة في كل الاجتماعات، تتحدّث عن الإصلاح وتجديد شباب الجمعية العامة التي اقتربت من سنّ الشيخوخة. وفي الدورة الستين، تبنّت الجمعية العامة نصاً مرفقاً بالقرار 286-60، بتاريخ 8 أيلول 2006، يشجع على عقد مناقشات غير رسمية تفاعلية تتعلّق بالقضايا الحساسة ذات الأهمية الخاصة بالنسبة للمجتمع الدولي. ويدعو النص إلى مشاركة رئيس الجمعية العامة لطرح موضوعات لهذه النقاشات التفاعلية.
وجرت بالفعل مناقشة أربعة مواضيع خلال الدورة الحادية والستين المنتهية هذا الأسبوع. وهي الشراكة في تحقيق أهداف التنمية الألفية ومساواة الجنسين وتعزيز دور المرأة والحضارات وتحديات السلام، وأخيراً التحديات التي يطرحها تغير المناخ.
وبفضل هذه التعديلات باتت الجمعية العامة تختار رئيسها ونائب الرئيس، ورؤساء اللجان الرئيسية قبل ما لا يقل عن ثلاثة أشهر من موعد الدورة الجديدة. ويستفاد من هذه الخطوة في تعزيز دور التنسيق بين اللجان من جهة وبين الجمعية العامة بكامل أعضائها من جهة ثانية. وعلى رأس هذه اللجان، تأتي اللجنة العامة المؤلفة من الرئيس ونائبه، ومن رؤساء اللجان الست. ومهمة اللجنة العامة تقديم التوصيات للجمعية العامة لإقرار جدول الأعمال، ولتوزيع عناصر الجدول، وتنظيم العمل.
ولقد خضعت اللجنة العامة للإصلاح في السنين الماضية من خلال الشروع في عقد اجتماعات غير رسمية، ومؤتمرات توضيح لعملها بالنسبة لقضايا معينة قيد الدرس ذات صلة بعمل الجمعية العامة.
على أن الأمم المتحدة، التي تنمو مع زيادة القرارات ويرتفع عديد موظفيها وأجهزتها في كل سنة، أصبحت على غرار الحكومات، مبتلية بالبيروقراطية الإدارية التي يستفيد منها المهيمنون على المنظمة من الدول الأكثر مساهمة، أو الأكثر نفوذاً. وهناك نصيحة يتداولها الموظفون أنه «لكي تكون سعيداً في الأمم المتحدة إبق خاملاً منسياً». ويمكن أن يُنسى الموظف في الأمم المتحدة حتى بعد أن يتجاوز سن التقاعد.
وفي الأعوام التسعة الماضية وحدها، ارتفع عدد المدنيين والجنود المنتشرين في إطار بعثات حفظ السلام من 20 ألفاً إلى 80 ألفاً. وتضاعفت على مدى الفترة نفسها الموارد المالية الإجمالية التي أدارتها الأمانة العامة لتصل إلى 18 مليار دولار. وارتفع أيضاً بشكل كبير عدد العمليات الإنسانية وعمليات حقوق الإنسان، ومعه تتضخم العمليات الحسابية، وتتعقد الدفاتر. ولقد سجلت فضائح كثيرة حول كيفية تخصيص الأموال وإنفاقها. والرقابة من واجب الدول الأعضاء ومندوبيها. وفي حين تثار قضايا صغيرة مثل تبديل عملات أجنبية في مهمات إنسانية في كوريا الشمالية بالعملة المحلية عن طريق المصرف المركزي، يتم أحياناً تجاهل فضائح كبيرة مثل حساب النفط في مقابل الغذاء، إلى حين تصطدم سياسة الأمين العام مع سياسة واشنطن. وعندها تثار القضية وتنبش كل الدفاتر.
لذا أصبح الإصلاح يأخذ مركز الصدارة في الأولويات لكي لا تفقد الأمم المتحدة هيبتها الأخلاقية بعد فقدان الكثير من سمعتها كمنظمة تمثل الشعوب. والإصلاح يمتد من زيادة فعالية عمليات السلام إلى إقامة شراكات أوثق مع الشعوب والقطاع الخاص، وتحسين الهياكل والنظم الإدارية.
في تقرير الأمين العام الصادر السنة الماضية تحت عنوان «الاستثمار في الأمم المتحدة: من أجل منظمة أقوى على الصعيد العالمي» تأكيد بأن المنظمة الدولية في حاجة إلى استثمار كبير في كيفية تعيين موظفيها وتنمية قدراتهم واستبقائهم، وكيفية شراء احتياجاتها وتنظيم مواردها، وكيفية إدارتها لأموال المساهمين وتفسير كيفية إنفاقها. غير أن المثالية بعيدة المنال حتى في الأمور الحسابية. ففي لجنة المخصصات المتفرعة عن الجمعية العامة، لا تستطيع الدول الفقيرة أو الضعيفة أن تنفق مبالغ زهيدة أحياناً في سبيل تبيان حقائق يطلبها مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العامة.
من ذلك، أنه بعد الحادثة الشهيرة أواخر العام الماضي عندما اغتالت الطائرات الحربية الإسرائيلية المدنيين الآمنين على شاطئ غزة، وبعدما طلبت الجمعية العامة إرسال لجنة تحقيق، عطلت الولايات المتحدة إنفاق اعتمادات صغيرة للجنة لا تزيد على 200 ألف دولار. لكن اللجان أنفقت مبالغ طائلة في إصدار تقرير في الصومال طالما أنه يتّهم إيران بالسعي إلى شراء اليورانيوم، ويتحدث عن انتقال 700 من الصوماليين إلى جنوب لبنان للقتال إلى جانب المقاومة. وعندما يطرح سؤال عن حجم الأموال التي أنفقت في مثل هذا التقرير، الذي لم يأخذ مجلس الأمن به بتاتاً، لا تجد إجابة.
وهكذا، تبدو الأمم المتحدة، وهي تحاول الاصلاح، كالعجوز التي تجري عملية تجميل تلو الأخرى، فتزداد قبحاً وزيفاً عقب كل عملية.

عندما اغتالت الطائرات الحربية الإسرائيلية المدنيين الآمنين على شاطئ غزة، وبعدما طلبت الجمعية العامة إرسال لجنة تحقيق، عطلت الولايات المتحدة إنفاق اعتمادات صغيرة للجنة لا تزيد على 200 ألف دولار. لكن اللجان أنفقت مبالغ طائلة في إصدار تقرير في الصومال طالما أنه يتّهم إيران بالسعي إلى شراء اليورانيوم، ويتحدث عن انتقال 700 من الصوماليين إلى جنوب لبنان للقتال إلى جانب المقاومة. وعندما يطرح سؤال عن حجم الأموال التي أنفقت في مثل هذا التقرير، الذي لم يأخذ مجلس الأمن به بتاتاً، لا تجد إجابة