باريس ــ بسّام الطيارة
«بـــراغمـــاتيّة» ساركـــوزي و«إنســـانيّة» كوشـــنير تترقّـــبان «يـــوم الحســـاب»


يختم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فترة «المئة يوم في الحكم»، التي يعتبرها المراقبون للشؤون الفرنسية «فترة سماح» لا عتب فيها ولا ملامة مهما كانت الأخطاء السياسية إذا وجدت، فهي محسوبة في خانة «تلمّس الطريق».
ومن حظ الإدارة الفرنسية الجديدة أن العطلة الصيفية تأتي مباشرة بعد فترة السماح، ما يؤجّل سجالات المحاسبة والحساب والتدقيق في خطوات ساركوزي وحكومته حتى انتهاء العطلة. وتكشف كلّ المؤشرات عن أنّ العودة من العطلة ستكون حامية جداً، أكان على الصعيد السياسي الداخلي أم على صعيد «الدبلوماسية النشطة» التي بادر إليها ساركوزي وكأنه كان متعطشاً لدخول حرمها.
من الأعراف السياسية في فرنسا ـــ الجمهورية الخامسة، أن مضماري الدبلوماسية والدفاع هما حصراً من الصلاحيات الدستوريّة للرئيس. وهو ما ذكّر به وزير الخارجيّة الفرنسي برنار كوشنير قبل يومين في عرين البرلمان. ومن هنا، كان التعجّب من اختيار الأخير لقيادة دبلوماسيّة البلاد، وهو المعروف بـ«تطلّعاته غير الكلاسيكية إلى سبل قيادة السياسة الخارجية وأهدافها». وهذا ما يفسّر ظهور بعض التناقضات وتعدّد الأصوات في مختلف الملفات الخارجية التي فرشت طاولة عمل الحكومة الجديدة.
وحول النقطة الأخيرة يعلّق أحد المحلّلين بالقول إنّ «هذا ما سيجعل يوم الحساب أكثر تشويقاً». ويضيف «كما من الصعب جمع الماء والنار في وعاء واحد» فإنّه «من الصعب الجمع بين فلسفة ساركوزي وفلسفة كوشنير» في ما يتعلّق بكمّ من الملفات المفترض العمل عليها في سياق فلسفة سياسية معينة. ويستطرد قائلاً إنّ «ضمّ كوشنير إلى الحكومة كان بناءً على عوامل سياسية داخلية محضة» وإنّه وافق على تعيينه «لأسباب شخصية»، في ظلّ غياب تناغم الرؤية الذي يعيق بناء «سياسة خارجية متلاحمة» لتصل إلى أهداف محددة.
ويشير المراقبون، في هذا السياق، إلى «حادثة تصريح الإليزيه حول حزب الله»، التي أثارت جدلاً من خلال وصف طبيعة التنظيم بأنّها «إرهابيّة»، ما كاد أن يخرّب المبادرة الفرنسية لـ«المصالحة في لبنان»، واستدعى تدخّلاً قوياً لتصحيح مسارها قبل أن تموت في مهدها.
وقد خبر كوشنير قبل يومين الثمن الذي سيدفعه «يوميّاً» في مركزه المعرّض للمحاسبة على قرارات وتوجّهات في دبلوماسية قد يكون غائباً عنها، أو في أحسن حال شريكاً غير حاسم في قراراتها؛ لقد خضع لاستجواب بسبب قضية الممرضات البلغاريّات، في اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية، وأمضى، كما أوضح أحد الذين حضروا الجلسة لـ«الأخبار»، «ربع ساعة عاطلاً جداً»، مدافعاً عن «عملية المقايضة مع النظام الليبي».
واعترف كوشنير بأنّ لرئيس الجمهورية حريّة تامّة في تقرير السياسة الخارجية لفرنسا. وقال «هكذا كان الأمر في عهد (الرئيسين السابقين فرانسوا) ميتران و(جاك) شيراك». وحول استبعاده عن الملف لمصلحة «زوجة ساركوزي سيسيليا»، أجاب موجهاً ردّه للاشتراكيين، «أريد أن أذكّر بأنّني قمت مع (زوجة ميتران) دانيال بأشياء أكثر خطورة وأكثر مخالفة للقانون» من دون أن ينبس أحد بأي كلمة انتقاد، وذلك في إشارة إلى مساندة الأكراد ضدّ نظام الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، وسفرهما إلى كردستان العراق من دون تأشيرات دخول.
ولم يمنع هذا من أن يسرّ مقرّبون إلى كوشنير بأنّه «غير سعيد من التوجّه الذي أخذه حلّ قضية الممرّضات البلغاريات». ويشير هؤلاء إلى أنّه لم يستطع أن يخفي بأنّ «بيع مفاعل نووي من ليبيا هو مجرّد افتراض».
ورغم نفي الدبلوماسي الفرنسي «دفع فدية» في مقابل إطلاق سراح الممرّضات، إلا أنّ بعض التفاصيل حول الخلفية المالية للعملية بدأت ترشح من وراء ستار التعتيم الذي أحاط بها. وتقول مصادر مطّلعة إنّ تأخير الإفراج عن الممرّضات في اليوم السابق لزيارة ساركوزي، حين كانت حرمه سيسيليا جالسة في طائرتها الخاصّة تنتظر في المطار لترافقهنّ إلى صوفيا، يعود إلى أنه كان قد وصل مبلغ 2.5 مليون يورو فقط إلى حساب ليبيا من المبلغ المتفق عليه وهو ٤٥٢ مليون يورو، ما اضطرّ ساركوزي، تحت إلحاح سيسيليا، إلى الاتصال بأمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني، لتدارك فشل العملية أمام الإعلام العالمي.
وتفيد هذه المصادر بأن حاكم المصرف المركزي القطري عبد الله بن سعود آل ثاني قد استقلّ طائرة خاصّة إلى طرابلس الغرب «وفي جيبه شيك بقيمة الفرق» البالغ 449.5 مليون يورو. ورغم مراوغة كوشنير في الإجابة عن السؤال أمام النواب، فقد تأكّد أنّ الاتحاد الأوروبي قد وعد قطر بتسديد المبلغ خلال 6 أشهر.
وفيما تتحدّث تسريبات عن عقد تسلّح كبير ربط فرنسا بليبيا، وعن قرار للقضاء البريطاني يمكن أن يخفّف عقوبة عميل سرّي ليبي سابق مسجون بسبب «اعتداء لوكربي» في عام 1988، يُشرّع القول بأنّ قضايا كثيرة يمكن أن «يفترق حولها الرئيس ووزير خارجيته» وجميعها مترابطة، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالشرق الأوسط وملفّ مشروع «الاتّحاد المتوسطي» الذي وضعه سيد الإليزيه في مقدمة أولويّاته في ما يتعلق بهذه المنطقة.
وللتداول بشؤون المنطقة المتشعّبة، استقبل ساركوزي أمس الرئيس المصري حسني مبارك، الذي وصفه المتحدّث باسم الإليزيه دافيد مارتينو بأنّه «شريك لا يمكن الاستغناء عنه»، مضيفا أنّه «من المهم لبلدينا التشاور دائماً» وأنّ «الاتحاد المتوسطي إضافة إلى التعاون بين البلدين على كل الصعد» شكّلوا محور اللقاء، مشيراً إلى أنّ الرئيسين أكّدا «تقارب وجهات النظر بين القاهرة وباريس في ما يتعلق بالملفّات العالقة». وقد لفت الانتباه جملة وردت في تصريح مارتينو حول الإعلان عن اللقاء، ومفادها «توافق حول الملفّات التي تتطلّب متابعة المشاورات للمساعدة في دفع الوضع فيها نحو الأمام».
ويرى المراقبون في هذه الجملة الأخيرة ترتيباً للمسعى الفرنسي للحاق بالمبادرات الأميركية في المنطقة وخصوصاً أنّ الرئيس المصري كان قد التقى قبل توجّهه إلى باريس، ولي العهد السعودي الأمير سلطان. ومن الطبيعي أنّ ساركوزي، الذي لم يعلّق حتى اليوم على دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش إلى عقد مؤتمر دولي حول الشرق الأوسط في الخريف المقبل، لا يرى بعين الرضى «مرور الحافلة وهو ينتظر على الرصيف» على حدّ تعبير أحد المتابعين للدبلوماسية الفرنسية. ومن الطبيعي أيضاً أن مجمل ملفّات المنطقة تمّ التطرق إليها ومن ضمنها الملفّان اللبناني والفلسطيني في ضوء المؤتمر المعلن.
ويلفت مراقبون في باريس إلى أنّ ساركوزي يشعر وكأنّ واشنطن تركت باريس «تذهب وحيدة في الملفّ اللبناني»، فيما تحضر هي «مبادرة أوسع تجاه الشرق الأوسط تبدو باريس مستبعدة عنها»، وخصوصاً أنّ ممثل اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط طوني بلير ليس محسوباً على خط فرنسي «ولا حتى على خط أوروبي» حسبما يرى البعض. ثمّ إن ساركوزي يرى أن واشنطن، وحتى إن لم تبد «ممانعة ظاهرة للمبادرة الفرنسية في لبنان»، إلّا أنّ عدم دعمها العلني إضافة إلى الانتقادات التي وجهتها للانفتاح على دمشق «لم تساعد البتة في إنجاحها».
ومع «ابتعاد ساركوزي عن التواصل الإعلامي في ما يتعلّق بالملف اللبناني»، الذي بات مدار التساؤلات حول «غياب النتائج الملموسة وتراجع الآمال» مع الاعتراف بوجود ديناميّة تحيا من جرّاء المواعيد الجديدة التي يطرحها كوشنير في ختام كل خطوة، يرى محلّلون أنّ الأسئلة بدأت تخرج من وراء الكواليس حول «جدوى هذا المجهود الدبلوماسي الفرنسي الذي لا يأتي بثمار» إلى جانب بعض الانتقادات التي تتقاطع حول «أسلوب الدكتور كوشنير» وملائمته مع «حقائق الوضع اللبناني على الأرض».
أمّا فلسطينيّاً، فلا يمكن لساركوزي أن ينسى أن كوشنير «ذهب بعيداً» في انتقاد واشنطن والسياسة الأوروبية التي «لم تتعامل بإنصاف حين انتُخبت (حركة) حماس ديموقراطياً» في عام 2006، حسبما أوضح لوزيرة الخارجيّة الأميركيّة كوندوليزا رايس، وهو يعرف أن الأميركيين قد أظهروا تضايقهم من «صراحة كوشنير»، ما زاد من ضيق هامش مناورة الدبلوماسية الفرنسية في استعادة دورها في الشرق الأوسط.
وفي شأن ملف إقليم دارفور، الذي جعله ساركوزي على رأس قائمة «ضرورات التدخّل الإنساني»، فإنّ كوشنير ما إن دخل إلى الـ«كي دورسيه»، حتى أطلق فكرة «الممرّات الإنسانية»، التي ظهرت كمحاولة لتأخير إقرار مجلس الأمن الدولي إرسال قوّات هجينة دولية وأفريقية، والذي حدث أوّل من أمس، من خلال القرار 1769.
ومن الطبيعي، بحسب المراقبين، أن يطلب ساركوزي من وزيره «التصاقاً أكثر» في ما يسمّيه البعض «الدبلوماسية الواقعية»، وخصوصاً أنّ كوشنير انتظر صدور القرار ليصرّح بأنّه «من الضروري أن تتدخّل الأمم المتحدة عسكرياً في الصومال الذي يُعتبر أسهل منه في دارفور». وهذا ما دفع البعض إلى التذكير بأنّ كوشنير كان في الصومال في عام ١٩٩٢، قبل شهر من التدخّل العسكري الأميركي الفاشل في البلاد التي تعيش الحرب الأهليّة منذ 16 عاماً.
وبانتظار عودة الحياة السياسية إلى فرنسا بعد العطلة، سيركن كلّ من ساركوزي وكوشنير إلى التفكير بقواسمهما المشتركة وما يفرّق بينهما. فالأوّل لا يريد إلّا أن يكون في خضم العمل الدبلوماسي على الساحة الدولية مهما كلف ذلك من براغماتية، بينما الثاني يريد رؤية دبلوماسية العالم كما رآها حين كان يهتمّ بالعمل الإنساني حيث ينفع الحوار والمبادرات الطيبة بعيداً عن البراغماتية الباردة.