باريس ــ بسّام الطيارة
ذهـب إلى «قصـره الأميـركي» تاركـاً وراءه «أزمـة المقايضـة مـع النظـام اللـيبي» تنتفـخ وتكـبر

دخلت فرنسا في سبات العطلة الصيفية، وهدأت الحركة السياسية واستراحت الدبلوماسية، بانتظار مرور أسابيع ثلاثة، يعود كلّ إلى عمله ويلتفت إلى مشاكله بعد انقضائها. وللمرّة الأولى منذ 40 عاماً تعيش فرنسا العطلة من دون أن يكون الرئيس السابق جاك شيراك مسؤولاً تتابع الصحف أخباره، فيما متابعة أخبار الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي باتت «رياضة العطلة»، كما يقول المراقبون.
«لقد فعلها مرة ثانية»، هكذا كان تعليق كثير ممّن علموا أين ذهب ساركوزي لقضاء عطلته ونوعيّة ومستوى العطلة التي اختارها. فالمكان الذي قصده هو «ولفبوبور» في ولاية نيو هامبشير الأميركيّة على الحدود الكنديّة، وهي «قرية» محبّبة إلى أغنياء العالم، شُيّدت منازلها الفاخرة حول بحيرة «وينيبيسوكي».
لا أحد في فرنسا يناقش «حق ساركوزي في العطلة». فهو برأي ٩٠ في المئة من الفرنسيين يستحقّها بعد المجهود الذي قام به هذه السنة لربح معركة الرئاسة، إلى جانب مقولة «العطلة مقدّسة لدى الفرنسيين»، الذين يذكّرون يومياً بأن دولتهم كانت في الثلاثينيات أوّل من سنّ قوانين «العطلة المدفوعة».
بيد أنّ «الزوبعة» التي تثيرها إجازة ساركوزي تنبع من عوامل عديدة، بعضها اجتماعي «أنتروبولوجي ـــــ فرنسي»، يتّفق الجميع على أن فترة رئاسة ساركوزي سوف تكون مليئة بها. وبعضها الآخر سياسي يعود لقلّة خبرة الإدارة الجديدة في إدارة العملية التواصلية الإعلامية المحيطة بكلّ «إنجازاتها».
في البعد الأول، يبدو جليّاً أن ساركوزي وزوجته سيسيليا يحبّان «الرفاهيّة والاحتكاك بالأغنياء». ويبدو أيضاً أنهما «لم يدركا بعد» أنّ موقعهما الجديد سيجعلهما عرضة لـ«غزوات الإعلام»، وكلّ حركة تنقّل ستكون تحت مجهر الملاحقة الدائمة للصحف.
ويبدو أيضاً أن قسماً كبيراً من الرأي العام الفرنسي لا يزال يعيش «شوفينية فرنسية» تعود إلى عصر «ما قبل العولمة»، تدفعه لانتقاد «خروج الرئيس لقضاء عطلته في الخارج»، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص.
وعلاقة قسم من الفرنسيّين مع المال والثراء لا تزال متأثّرة بخلفيات «الثورة الفرنسية وثورة الشباب في أيار ١٩٦٨». والإعلام الفرنسي، الذي هو من باطن هذا الرأي العام، على جديّته ومهنيته، يعيش في دوّامة التشديد على تكاليف رحلة ساركوزي «الباهظة». إذ تبيّن أن بدل الإيجار الأسبوعي للفيلا التي ينزل فيها ساركوزي هو بحدود ٣٠ ألف دولار، ما أدّى إلى انتقادات شديدة حول هذا المبلغ، من دون الدخول في التفاصيل.
و«تكلّس العلاقة» بين عامّة الفرنسيين والمال، والامتعاض المتوارث تاريخياً من البذخ المحيط بالأثرياء، تجعلهم يغيّبون تقديرهم لواقع العالم الجديد، حيث إن «الأثرياء الجدد لا يبذّرون بقدر ما يقتصدون»، مستفيدين من الإعلام «لنفخ» قيمة ما يصرفون، وبناء هالة تحيط بهم، وإلهاء العامّة عن الأمور الأساسية بقصص وصور تملأ صفحات الصحف.
إلّا أن ما جعل هذه الزوبعة المرتبطة بعطلة الرئيس تأخذ هذه الأبعاد، مردّه إلى أن ساركوزي ذهب إلى «قصره الأميركي» تاركاً وراءه «أزمة المقايضة مع النظام الليبي» تنتفخ وتكبر، وبات متوقعاً أن تنفجر عند عودة الحياة السياسية في نهاية الشهر الجاري، بعد اضطراره للقبول بإنشاء لجنة برلمانية لدراسة عملية بيع الأسلحة إلى طرابلس الغرب.
ويتّفق كثيرون على أن هذه «الأزمة المصغّرة» تعود إلى قلّة الخبرة التواصلية لدى الفريق الجديد، الذي اعتقد بإمكان تمرير قضية الممرّضات البلغاريات، كما لو أنها قضية إنسانية نجح ساركوزي بتحريكها «ما إن اهتمّ بالموضوع»، مع مقدار من الشهرة لسيسيليا التي كانت في الواجهة الإعلامية.
بيد أنّ الحسابات الليبيّة لم تتطابق مع حسابات ساركوزي. فالزعيم معمّر القذّافي كان يسعى دوماً من وراء هذه الصفقة إلى تلميع صورة بلاده في الخارج وفي الداخل. وبالنسبة إلى النظام الليبي، فإن الإفصاح عن صفقة أسلحة واتفاقات بناء مفاعل نووي هو «إشارات تواصلية أهمّ من عشرات ملايين الدولارات التي قبضتها عائلات الأطفال الضحايا». فهي تشير إلى منتقديها ومنتقدي «المسار الليبي» القاضي بأنّ الانصياع لرغبة المجتمع الدولي يصل إلى «مكافأة» يمكن أن تكون بالحصول على «حلوانية» على شكل مفاعلات نووية وصفقات أسلحة واعتراف دولي بحقّه في النووي السلمي. ومن هنا خرجت التصريحات الرنانة من طرابلس لتقلب المعادلة التواصلية الفرنسية.
وجاءت ردّود الفعل الفرنسية لتزيد من إمعان الليبيين في «فضح الصفقة» وإعلان تفاصيل لم تكن معروفة في الأوساط الفرنسية، مع الكثير من «الغمز عن الاستعمالات المحتملة» لهذا النوع من الأسلحة، وخصوصاً أن القضية برمّتها جاءت في الوقت الذي أعلنت فيه واشنطن عن تزويد «الدول المعتدلة» في الشرق الأوسط بعشرات المليارات من الأسلحة التي تطرح نفس نوع الغمز والتساؤلات عن الاستعمالات المفترضة لها.
ومن هنا مطالبة النوّاب الفرنسيّين بلجنة تحقيق برلمانية، وافق ساركوزي سريعاً على إنشائها لإدراكه أنّها تجد صدى إيجابياً لدى الرأي العام الغربي، الذي لا يزال يتساءل عن جدوى بيع أسلحة لدول لا تنطبق عليها أيّ معايير عامّة لاحترام حقوق الإنسان.
وما ألبس عملية الإفراج عن الممرّضات «رداء صفقة من وراء الكواليس»، هو طابع التناغم الزمني مع صفقات الأسلحة الأميركية الذي أعاد التذكير بأن ساركوزي لم ينتقد مباشرة، خلال حملته الانتخابية، السياسة الأميركية بقدر انتقاده «عدم إشراك الحلفاء فيها». فهل تكون الصفقة الليبية الفرنسية أولى الحلقات في سلسلة وصل السياسة الفرنسية بالسياسة الأميركية؟ سؤال يمكن الإجابة عليه بعد العطلة.




أشارت بعض الصحف الفرنسيّة إلى أن النظام الليبي الذي قبع سنوات تحت الحظر الدولي، لا يزال «يعدّ من دول الممانعة»، وأنه نظام يصعب الوثوق به، وشطّت بعض الصحف، في إشارة إلى الصفقات الأميركية للسعودية، لتذكّر بأن «نسبة كبيرة من مقاتلي تنظيم «القاعدة» في العراق وأفغانستان ولبنان هم سعوديّو الأصل»