strong>بول الأشقر
قبل نحو عام، دخل الرئيس الكوبي فيديل كاسترو في غيبته الاستشفائية. مرضه بات سرّاً من أسرار الدولة، إلا أن إطلالاته في الصور والصحف والبيانات بقيت صلة بينه وبين جماهير الشعب الكوبي، الذي لا يزال ينتظر عودة زعيمه إلى مهماته

في الحادي والعشرين من تموز 2006، ولمناسبة توقيع اتفاق تجاري شامل بين مجموعة المركوسور وكوبا، شارك الرئيس الكوبي فيديل كاسترو في قمة المنظمة الإقليمية في كوردوبا الأرجنتين. مساء اليوم نفسه، لبّى دعوة لجنة أمهات المخطوفين، وبعدما قدّمه الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز خلال ساعتين، خطب كاسترو لثلاث ساعات أمام عشرات الآلاف الذين أتوا للاستماع إلى «الأسطورة».
نهار الأربعاء في السادس والعشرين من تموز، ولمناسبة مرور 53 سنة على الهجوم الفاشل على ثكنة مونكودا، «عيد الانتفاضة» في كوبا، خطب فيديل ككل سنة في هذه المناسبة. وكعادته، لجأ إلى الإحصاءات وتوقف فخوراً عند عدد المسنّين المتزايد الذين تخطّوا عتبة المئة سنة في كوبا، ثم أضاف مازحاً «ليطمئن جيراننا في الشمال، لست باقياً في السلطة لأكمل المئة عام».
مساء الإثنين 31 تموز، أي بعد أربعة أيام، نحو الساعة السابعة مساءً، أطلّ الأمين العام للرئاسة على شاشات التلفزة، وتلا رسالة من الرئيس إلى شعب كوبا تبدأ بهذه الكلمات «أيام وليالي عمل متواصل تقريباً من دون نوم أرهقتني، ما أدى إلى نزف مستمر في المعدة أوجب عليّ الخضوع لعملية جراحية دقيقة تحتم ابتعادي لأسابيع عن السلطة»، وهو ما أرفقه بالإعلان عن تخليه «بشكل مؤقّت» عن رئاسة الدولة والحكومة وقيادة الجيش، وتعيين نائبه وشقيقه راوول في هذه المناصب. وسلّم مسؤولين آخرين مهمات كان يتولاها أيضاً. وأنهى رسالته قائلاً «لن تنال أبداً الإمبريالية من كوبا. ومعركة الأفكار ستستمر».
في اليوم التالي، الثلاثاء في الأول من آب، وجه كاسترو رسالة أخرى، هذه المرة «إلى شعب كوبا والأصدقاء في العالم». بدأت بالكلمات هذه «لا أستطيع أن أخترع أخباراً طيبة، فهذا مناف للأخلاق، وإذا كانت الأخبار سيئة، فالمستفيد الوحيد هو العدو. في وضع كوبا الخاص، وبسبب مخططات الأمبراطورية، تتحول صحتي إلى سرّ دولة لا يمكن كشفه باستمرار، وعلى المواطنين تفهم ذلك». وتابع أن وضعه «مستقر حالياً، وفقط مرور الوقت سيحدّد الوضع الصحي الحقيقي».
ما الذي حدث؟
على الصعيد الطبي، نقلت صحيفة «آلباييس» الإسبانية بعد ستة أشهر من العملية عن مصادر طبية في مستشفى مدريد قولها إن «النزف المستمر جعل العملية الجراحية ضرورية. وفيديل فضّل، بين خيارين عرضهما الأطباء عليه، وصل البطن بالمستقيم لأنه اعتقد أنه سيوفر عليه عملية ثانية ولأنه اعتبره أفضل من خيار تجميع الغائط في جيب يحمل على البطن ويغيّر تباعاً».
وما حصل أن الوصلة انفجرت بعد استئصال أجزاء من المعدة الملتهبة، ما أدى إلى تفشي الالتهابات في الصفاق الذي يبطّن غشاء المعدة، ما أوجب عملية ثانية أدت بدورها إلى التهاب المرارة، وهذا ما حمل الأطباء على زرع قناة اصطناعية رفضها جسم كاسترو فتمّ استبدالها بأخرى. وقد أدت هذه العمليات المتتالية إلى صعوبات جمّة في معافاته. وقد ذكر كاسترو، في مقال نشره في 24 أيار الماضي، أن «العملية الأولى فشلت» وأنه مرّ بظرف «بين الحياة والموت».
سياسياً، وما هو جليّ منذ البداية، بحسب صديقه ميغيل بوناسو، أن كاسترو قرر استعمال مرضه كـ«مناورة لاستكشاف كل الأسلحة غير العسكرية التي ستلجأ إليها الولايات المتحدة». في الواقع، يبدو أن فيديل استغل مرضه ليسرّع بعملية توزيع السلطة، والرسالة الأولى، باستثناء كلمتي «بشكل مؤقّت»، تعبّر عن خيارات استراتيجية تأخذ أحياناً نبرة الوصية، والأسماء الستة التي ذكرها فيديل، إضافة إلى راوول: هي القيادة التي توزعت مهمات فيديل وأجزاء من سلطته.
وفيما استعجلت الولايات المتحدة فتح المعركة السياسية، إذ تحدّث الرئيس الأميركي جورج بوش في اليوم التالي عن «المرحلة الانتقالية»، وطالبت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في 4 آب بـ«انتخابات حرّة»، يلفت النظر إصرار فيديل على عدم الكذب على شعبه، عندما يستحيل عليه قول كل الحقيقة.
من الممكن استخلاص ما فعله فيديل من أي دليل حرب عصابات: عندما قرر خوض العملية، درس كيفية الإعلان عنها وأيضاً احتمالات النجاح والفشل وما بينهما، كما عبّر عنها في رسالته الثانية. والبعض ممن يعرفونه عن كثب لا يستبعدون أنه نصّ أيضاً مسوّدة للاحتمال الأسوأ، وللتدابير الموجبة في هذه الحالة. إذ إن المناورة، كما سماها بوسانو، كانت تخاض بـ«الذخيرة الحيّة».
بالعودة إلى مجريات الأحداث، فيديل تعافى ببطء كما يتعافى رجل في الثمانين من عمره، دخل مرهقاً إلى المستشفى وعانى ما عاناه من جراء العمليات. وبعد أسبوعين على العملية، ظهرت الصور الأولى لفيديل وواكبتها الصور الأولى لراوول وهو يمارس مهماته الرئاسية، مستقبلاً تشافيز، الذي جاء ليعود فيديل في الثالث عشر من آب.
وفي اليوم نفسه، وجّه فيديل رسالة إلى الشباب يدلّهم فيها على كيفية التمييز بين الحقيقة المجردة وما يصاغ حولها: «إذا قيل لكم إنني أتعافى فهذا تقرير دقيق. أما إذا قيل لكم إني أتعافى بسرعة أو إنني لن أنتكس بعد اليوم أو إنني تخطيت مرحلة الخطر، فهذا تطاول على الحقيقة الموضوعية. أقترح على الجميع أن يتفاءلوا، وفي الوقت نفسه أن يبقوا جاهزين لأي خبر معاكس».
تشافيز عاد بداية أيلول، وبُثّ حينها شريط مصوّر عن لقائه مع كاسترو، واكبته رسالة جديدة للزعيم الكوبي قال فيها إنه خسر 19 كيلوغراماً من وزنه، وإن آخر القطب فكّكت وإن «الأسوأ قد مرّ»، وإنه سيستقبل بعض الزوار في الأيام المقبلة.
وهو بالفعل ما حدث، ففي اليوم التالي، التقى الرئيس البوليفي إيفو موراليس مطوّلاً، وفي الأسبوع التالي، لمناسبة قمة دول عدم الانحياز، استقبل تباعاً مندوب الرئيس الأرجنتيني نستور كيرشنر ورئيس اللاوس الجنرال شومالي ساياسون والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد.
الوقتمرّ الثاني من كانون الأول، وهو الموعد الذي قطعه فيديل عندما أجّل احتفالات مولده. وفي غيابه دلالة على المعافاة التي طالت.
في الأسبوع التالي، نشرت صحيفة «إندبندنت» البريطانية، نقلاً عن مصادر غربية دبلوماسية، أن فيديل لن يصل حيّاً إلى عيد الميلاد وأنه مصاب بسرطان عدواني ويرفض أي علاج. بعد أسبوع، «يؤكد» جون نيغروبونتي بصفته مديراً لـ«سي آي إي» الخبر: «إنه على حافة الموت، إنها مسألة أشهر لا سنوات».
الواقع أبسط من ذلك: المعافاة البدنية أبطأ من المعافاة الطبية. يوم عيد الميلاد، يعاينه البروفيسور سابريدو، أحد أهم اختصاصيي السرطان في إسبانيا، ثم يعقد في اليوم التالي مؤتمراً صحافياً في مدريد: «وضعه الصحي جيّد، وضعه الذهني عادي أي رائع، ويتعافى تدريجاً على الصعيد البدني. ليس مصاباً بالسرطان ولا يحتاج إلى عمليات أخرى. المشكلة الوحيدة أنه يريد كل يوم العودة إلى العمل. والأطباء يصرّون أن يعود إلى العمل خطوة خطوة».
مرت ستة أشهر على العملية، ويبث التلفزيون شريطاً يظهر فيه كاسترو وهو يمازح تشافيز وقد استعاد وزنه والكثير من عافيته. في آذار، يستقبل صديقه الروائي غبريال غارسيا ماركيز، وفي نهاية الشهر نفسه، ينشر مقاله الأول في جريدة «غرانما» بعنوان «خواطر القائد العام». وقد نشر حتى الآن أكثر من ثلاثين مقالاً يناقش في أكثريتها قضايا عالمية. وفي بداية حزيران، بثت مقابلة من 52 دقيقة معه في برنامج «طاولة مستديرة». تكلّم فيها عن شتى مواضيع الكون. وعندما سأله الصحافي إذا ما زالت صحته سر دولة؟ تجهّم قبل أن يجيب: «أي سرّ دولة؟ لا يوجد سرّ دولة».
في أواسط حزيران، عقد كاسترو سلسلة من الاجتماعات الطويلة مع حلفائه: ساعتان ونصف مع موراليس، ست ساعات مع تشافيز، ساعة ونصف مع رئيس بنما دانييل أورتيغا. ومع مرور سنة على احتجابه، جاء «عيد الانتفاضة»، العيد الرابع والخمسون للهجوم على ثكنة مونكادا، إلا أن ظهوره إلى العلن لم يتم.
الإبن المدلل والأخ الموكَّل
قصة هذه السنة التي مرّت، عملت من فيديل كاسترو، المحرَّر من مقتضيات مسؤوليات الدولة، «معلّقاً» على السياسة الخارجية، وهو عائد لخوض ما يسميه «معركة الأفكار». وله فيها حليف ثمين. أسوة بفيديل كاسترو، يفهم هوغو تشافيز الرئاسة منبراً لـ«معركة الأفكار» ومهمة الرئيس بأنها شحن الروح الثورية في المواطنين. في المقابل، في دول أميركا الجنوبية حيث الديموقراطية مؤسساتية والاقتصاد أكثر تعقيداً، يرى الرؤساء اليساريون أنهم يمثلون، على النمط الأوروبي، ناخبيهم بالدرجة الأولى وأحياناً مجموع الناخبين.
أيّاً يكن، أظهرت السنة الماضية أن هوغو تشافيز، مموّل الجزيرة الأول حيث يؤمن لها 90 ألف برميل نفط يومياً بأسعار مدعومة، هو بالنسبة لفيديل تلميذه المفضّل. من يراجع يوميّات السنة الماضية يكتشف الدور المميّز الذي يحظى به تشافيز في تظهير معافاة كاسترو. له دائماً الدور الأول، هذا الذي يعطى عادة للإبن البكر. وتشافيز يسمي فيديل أحياناً «أبي». وعندما يشتدّ الضغط الإعلامي، يسلّمه فيديل ملفه الطبي ويتحول تشافيز إلى شبه ناطق طبي.
أكثر من ذلك، يسرّ إيفو موراليس أن فيديل أوصاه لدى أول لقاء معه عندما كانت معافاته لا تزال في مراحلها الأولى: «لا تفعلوا مثلي... افعلوا مثل تشافيز».
باختصار شديد، وبالرغم من أحادية نظرة الصحافة العالمية التي تحاشت الموضوع، السنة التي مرت هي سنة راوول بامتياز. وعرف شقيق كاسترو الأصغر، من أمه، أن يجتاز ببراعة قصوى هذه الفترة الدقيقة لأنه عرف كيف يمارس القيادة الجماعية: يستشير نحو عشرين من كبار قادة النظام، ومنهم فيديل، في ما يراه القرارات الكبيرة، وهذا ما ساعد في تحييد الصراعات داخل القيادة حتى الآن.
في القاموس الكوبي، كلمة «مرحلة انتقالية» أو «خلافة» ممنوعة. إنها «الاستمرارية» كما يكرر كارلوس لاغي، أحد الرجال الأقوياء في الحزب. ويعبر راوول عن ذلك بحذاقة: «وريث فيديل هو الحزب... لا أنوي، حتى لو نويت لن أنجح، في محاولة تقليده. لا أحد يستطيع أن يحل مكانه، وعلينا كمجموعة أن نفعل ذلك، كل واحد من موقعه».
بغض النظر عن العاطفة التي يكنّها شعب كوبا لفيديل، ليس أكيداً أن الكوبيين لا يفضلون أسلوب راوول الخافت. ما يثير اشمئزاز «المعلّق» فيديل هو من يتحايل على مساواة النظام، مثلاً بين من يقبض بالدولار من السياحة أو من تحويلات الخارج ويستفيد من مجانية النظام الصحي أو التعليمي. دائماً معركة الأفكار، ما يحرك راوول هو ضرورة تحسين الاقتصاد بأي ثمن للتخفيف من مشاكل المواطن العادي الذي عليه أن «يحلحل» حاجاته الأساسية بمعاش معدله 15 دولاراً شهرياً. وأيضاً ضرورة تلبية حاجات الشباب، لذلك هاجسه هو الإتيان بالاستثمارت الأجنبية وتنويعها.
وقد قام راوول خلال هذه السنة بتعميق التعاون مع الصين وأعاد تمتين العلاقة مع إسبانيا، وإصراره في ثلاث مناسبات على اقتراح مفاوضات على الولايات المتحدة، جوبهت بالازدراء وبالرفض القاطع، يهدف بالتأكيد إلى استكشاف إمكانات رفع الحصار المفروض على كوبا.
أخيراً وليس آخراً، وجود راوول في هذا المنصب ليس من باب الصدفة، فهو من بنى الجيش، العمود الفقري لاستقرار الجزيرة. وازداد دور راوول مع «المرحلة الخاصة» التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمستمرة حتى اليوم، فهو الذي أشرف على الأسواق الفلاحية الحرة بدءاً من عام 1994 وأيضاً على دورات التحسين الإداري الرأسمالي في صفوف الجيش الذي يشرف في كوبا على المؤسسات الأكثر ربحية في الجزيرة، ومن بينها القطاع السياحي.
فكرة راوول هي إنتاج صيغة استوائية للنموذج الصيني. إنه يفكر بإصلاحات اقتصادية شبيهة بالتي أدخلها دين تساو بينغ في الصين القائمة على تشجيع المؤسسات الصغيرة الخاصة، لا تلك التي وصلت إليها الصين اليوم. يركز أولوياته حالياً على قطاع النقل لأنه على وشك الانهيار وعلى قطاع الزراعة. وعن هذا الدور، راوول لن يحيد لأنه يدري أن الوقت يمرّ: ليس فقط على شقيقه وعليه، بل أيضاً على زوجته فيلما إيسبين التي توفيت قبل أقل من شهرين. ولأنه يدري أكثر من أي كان أن الخطاب، أي خطاب، لا يستطيع أن يحل محل التراكم المتواضع الذي يتطلّب تصويباً دائماً وترسيخاً يوميّاً، ولأن المهمة لا تتحمل التأجيل بعد اليوم، يغوص راوول في تفاصيل الإدارة اليومية ويثير كل ما يتطلب أن يثار وينتقد كل ما يحتاج إلى النقد. في خطابه الأخير في السابع والعشرين من تموز يقول راوول: «إنه من واجبنا إعادة النظر في كل ما نقوم به لنقوم به بشكل أفضل، وتحويل مفاهيمنا وأساليبنا التي كانت ملائمة في فترتها والتي مرّ عليها الزمن». وعند هذه النقطة، يستشهد بخطاب لفيديل في أول أيار من عام 2000: «الثورة تعني تملّك معنى اللحظة التاريخية أي تغيير كل ما يجب تغييره».