strong>أرنست خوري
عرفت العلاقات الأميركية مع التنظيمات السنية الجهادية، تقلّبات جذرية عبر التاريخ؛ فبعدما كانت تحظى بالتمويل والتسليح والرعاية من واشنطن وحلفائها ضدّ «الشيطان الشيوعي»، انقلب «مقاتلو الحرية» على الحلفاء السابقين. غير أن صعود نجم التكفيرية، أدخل على المعادلة عنصراً جديداً، فباتت محلّ خلاف، يصل إلى حد القتال، وهو ما تظهر مفاعيله في كل من
أفغانستان والعراق

تسود بين المتابعين لشؤون الاحتلال الأميركي في أفغانستان والعراق، فكرة نمطية تسطيحية، تضع جميع الرافضين للوجود الأجنبي المحتلّ في هذين البلدين، في بوتقة واحدة اسمها تنظيم «القاعدة». ولهذه الكلمة، التي باتت من الأكثر استخداماً في الإعلام والدراسات والأبحاث منذ أحداث 11 أيلول 2001، رموز عديدة: عمليات انتحارية، وقتل مجّاني، وترحال في جبال أفغانستان ووزيرستان الحدودية مع باكستان، وفتاوى تكفيرية بحق اليهود والصليبيين و...الشيعة.
غير أنّ قراءة نقدية تدخل قليلاً في عمق إشكالية مقاومة المحتلّ الأجنبي من دون أن تتحوّل إلى آلة للقتل الجماعي، تُظهر أنّ المذاهب الإسلامية، التكفيرية منها وغير التكفيرية، متعدّدة إلى درجة تستحيل معها أي عملية تعميم لـ «مقاومة الاحتلال». من هنا، كان لا بدّ من العودة إلى التفريق المنهجي بين التيارات العديدة التي ترفع لواء مقاومة الجيوش المحتلّة، منذ 2001 في أفغانستان، و2003 في العراق.
في البدء كانت وزيرستان
مثّل إقليم وزيرستان الباكستاني الحدودي مع أفغانستان، الذي يُعرَف بإقليم القبائل، منذ عهد النظام الشيوعي في كابول، الحاضنة الأساسية للإسلاميين الراديكاليين في كل من باكستان وأفغانستان، حيث كانت فرق «المجاهدين» ومن انضمّ إليهم في ما بعد من مقاتلين أجانب، هم عرب بغالبيتهم الساحقة، مطلباً أميركياً وباكستانياً لمحاربة المدّ الشيوعي.
وقد أطلق الرئيس الاميركي الأسبق رونالد ريغان عليهم صفة «مقاتلي الحرية في وجه امبراطورية الشرّ السوفياتية»، قبل انقلاب السحر على الساحر، أو قبل أن يتفرّغ «مقاتلو الحرية» أنفسهم لمحاربة ظلّ «العم سام»، لا في أبراج نيويورك فحسب، بل حيث يسود نمط الحياة الغربية عموماً.
وبعد سقوط النظام الشيوعي، وزوال الوجود السوفياتي في أفغانستان، بدأت رحلة الألف ميل من جبال وزيرستان بالنسبة للتكفيريين، الذين تجمّعوا في تنظيمين رئيسيين: «القاعدة»، و«طالبان باكستان» (الذين سيطروا على المسجد الأحمر في اسلام أباد والمدرسة الدينية التابعة له، والذي شهد الشهر الماضي أحداثاً دموية بين رجال الدين وطلاّبه، والسلطات الباكستانية).
جذور التكفيريين: بين اليمنيين والمصريين
عرفت «القاعدة» تحوّلات فكرية ايديولوجية كبيرة على امتداد تاريخها. ويتّفق المتخصّصون في الشؤون الاسلامية على أنّ الفكر التكفيري أدخله الاسلاميون العرب على الحركات الاسلامية خلال الحرب مع الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في العقد الثامن من القرن الماضي، وخصوصاً المقاتلين المصريين الذين أرسلهم «مكتب الخدمات» لتنظيم «القاعدة»، الذي أسّسه الفلسطيني عبد الله عزّام، لينضمّوا إلى المقاتلين اليمنيين في أفغانستان.
وبعد الانسحاب السوفياتي وسقوط النظام الشيوعي الأفغاني، انتهى «الجهاد» بالنسبة لليمنيين الذين عُرفوا بـ «الدراويش»، لأنهم كانوا بمعظمهم أفراداً بسطاء غير متعلّمين، وغادروا البلاد بما أنهم لم يقاتلوا وفق برامج سياسية ايديولوجية، بعكس ما كانت الحال مع المصريين، الذين انخرطوا في المجتمعين الأفغاني والباكستاني.
وكان هؤلاء المصريون بغالبيتهم من النخب المثقّفة من أطبّاء ومهندسين منتمين سابقين إلى جماعة «الإخوان المسلمين» ومعارضين لمشاركة «الجماعة» في الحياة السياسية المصرية. والقسم الآخر منهم كانوا أعضاء في تنظيم «الجهاد الاسلامي» بقيادة الطبيب أيمن الظواهري، وهو التنظيم الذي كان وراء اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات عام 1981 بعد توقيعه اتفاقية السلام مع اسرائيل.
ومن المعروف أنّ زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن انضمّ إلى المجاهدين العرب في أفغانستان عام 1996 آتياً من السودان، بعد انقطاع العلاقة مع العائلة المالكة السعودية، التي أقرّ بن لادن عام 1985 بالولاء لها، حين قال إنه «لا يأتمر سوى بالملك فهد شخصياً»، في إشارة إلى الملك السعودي حينها.
ووصل عدد المقاتلين الأجانب (بالأخص عرب وشيشان وأوزبك) في كل من أفغانستان ووزيرستان الحدودية عام 2006، إلى 40 ألف مقاتل تكفيري، رأوا أنّ الأولويّة في جهادهم، هي إقامة إمارات إسلامية في كل من وزيرستان الشمالية والجنوبية، ومحاربة الجيش الباكستاني في المناطق القبلية الحدودية تمهيداً لقلب النظام «الكافر» في اسلام اباد، وذلك قبل محاربة الاحتلال الأطلسي (الغربي ـــــ المسيحي) لأفغانستان.
وهنا بالتحديد تكمن الخلافات الكبيرة جداً بين «القاعدة» من جهة، والمقاتلين الأفغان من «طالبان» من جهة أخرى، لأنّ معظم هؤلاء كانوا مرتبطين بعلاقات واتفاقيات تعطيهم شروطاً ممتازة مع اسلام اباد. اتفاقيات تعلن الهدنة بين الطرفين، في مقابل السماح لـ«طالبان» بالحصول على الملاذ الآمن في المناطق الحدودية القبلية للتسلّح والتدريب.
وتحاشياً لحرب محتّمة بين الطرفين بسبب الخلاف الكبير في الرؤية والأهداف والاستراتيجيا، أرسل زعيم «طالبان» الملا محمد عمر، قائده العسكري داد الله، قبل مقتله في أيار الماضي، للتفاوض مع «القاعدة» و«طالبان باكستان»، في محاولة لإقناعهم بتوحيد الجهود ضدّ القوات الغربية في أفغانستان، وعدم استهداف النظام الباكستاني. غير أنّ النتيجة كانت سلبية. ومع تصاعد الخلاف بين الطرفين، وقّع «طالبان أفغانستان» مع السلطات الباكستانية اتفاقية في 5 أيلول عام 2006، تنصّ على ترحيل جميع الاسلاميين الأجانب من المناطق القبلية الحدودية، في مقابل نيل الحركة امتيازات واسعة في التمويل والتسليح والحماية في المناطق القبلية، بحسب مجلة «لوموند ديبلوماتيك».
غير أنّ الاتفاق كان مرفوضاً بالمطلق بالنسبة للمقاتلين «الأمميين» من «القاعدة» و«طالبان باكستان». وفي شهر آذار الماضي، تُوِّجت العداوة بين الطرفين بمجزرة ارتكبها عناصر «طالبان أفغانستان» بحقّ مجموعة مقاتلين أوزبك ينتمون لـ«القاعدة» في وزيرستان، وعندها، اضطرّ القسم الأكبر منهم إلى مغادرة البلاد متوجّهين إلى العراق.
الصيد الوفير
لم يكن الاتفاق على وجهة العراق خياراً عرضياً، ذلك أن الجانب الأميركي أدى، بالتنسيق مع السلطات الباكستانية، دوراً كبيراً في اختيار بلاد الرافدين، لأنّ جنرالات واشنطن رأوا أنّ ظروف الجغرافيا العراقية ستسمح لهم بتصفية هؤلاء المقاتلين بأسهل مما تسمح به الأراضي الأفغانية الحدودية الوعرة والصعبة. وكانت هذه الاستراتيجية القاضية بإفراغ أفغانستان ووزيرستان من المقاتلين والإتيان بهم إلى العراق، فكرة قديمة في العقل العسكري والسياسي الأميركي. وعبّر الرئيس جورج بوش عن ذلك في 2 تموز عام 2003 بقوله «إذا كانت القاعدة قادرة على محاربتنا في العراق، فليأتوا إلينا... ونحن قادرون على القضاء عليهم هناك».
وبالفعل، منذ احتلال العراق عام 2003، بدأت أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب الذين ينتمون إلى فصائل تكفيرية تتدفّق إلى العراق، وسط تجاهل أميركي يصل إلى حدّ التواطؤ. وفي مقدمة الوافدين، كان أبو مصعب الزرقاوي، الذي سيصبح في ما بعد مسؤول «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، حيث سيلقى حتفه في وقت لاحق. وعلى الفور، أدّت هذه الظاهرة إلى تضارب كبير في جداول الأعمال والأجندات السياسية مع الفصائل الاسلامية «المحلية».
وفي السياق، يرى الرئيس السابق لهيئة العلماء المسلمين في العراق، محمد بشار الفائدي، أنّ قرار الحاكم العسكري الأميركي للعراق بول بريمر القاضي بحلّ جميع القوى العراقية المسلّحة عام 2003، كان يهدف إلى فتح الحدود العراقية أمام مقاتلي «القاعدة» الذين سمّاهم «اللعنة التي حلّت على المقاومة العراقية» للمجيء من وزيرستان وأفغانستان إلى العراق.
الأميركيون «أهون» من «القاعدة»
ومثلما كانت الحال في أفغانستان، سيطر المقاتلون الأجانب على الساحة العراقية واضطرّ المقاومون العراقيون إلى الرضوخ لهم حتى عام 2006 عندما بات الوضع بين الطرفين لا يُحتمل، بعدما تحولت أولويّة «القاعدة» إلى قتل الشيعة والمدنيين والإعداد لقلب الأنظمة العربية المجاورة على حساب «الجهاد» ضدّ الاحتلال في بلاد الرافدين، حسبما ذكر تحقيق في شهر تموز في مجلة «لوموند ديبلوماتيك».
وعقب إعلان «القاعدة» عام 2006 عن تأسيس «الامارة الاسلامية في العراق» وعاصمتها (محافظة) ديالى، خرجت الخلافات، لا بل العداوات، بين المقاومة السنية العراقية من جهة (عناصر الحرس الثوري السابق، والبعثيون، والقبائل السنية، وفصائل دينية)، و«القاعدة» من جهة ثانية إلى العلن. ودارت معارك شرسة بين «الجيش الاسلامي في العراق» (منظّمة سنية غير تكفيرية مؤلّفة من عراقيين انشقّت عن «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»)، وبين «القاعدة» في عدد من محافظات الوسط السنية في آذار/ نيسان من العام الماضي. وانتقل القتال إلى شاشات الفضائيات العربية؛ ففي شهر نيسان الماضي، عرضت قناة «الجزيرة» القطرية إعلان زعيم «الجيش الاسلامي في العراق» ابراهيم الشمّري الطلاق النهائي مع «القاعدة»، معتبراً أنّ الخلاف بين الطرفين بات كبيراًَ إلى درجة «أننا نفضّل التحاور مع الأميركيين على العمل المشترك مع القاعدة».
وأمام الفشل في الميادين الأمنية والسياسية في العراق، حاول الأميركيون، إلى جانب حلفائهم العراقيين، اللعب على وتر الخلافات هذه، وجنّدوا عدداً كبيراً من القبائل السنية، وخصوصاً في محافظة الأنبار، وسلّحوها لتقاتل «القاعدة». ويرى الأميركيون أنّ هذا النجاح هو إنجازهم الأكبر الذي حقّقوه بعد أكثر من أربعة أعوام على احتلال العراق، حسبما جاء في التقرير المرحلي الذي قدّمه القائد العسكري الأميركي في العراق دايفيد بيترايوس والسفير الأميركي في بغداد رايان كروكر في 15 تموز الماضي.
وعلى الصعيد السياسي، حاول حكّام بغداد الاستفادة أيضاً من الخلافات بين المقاومة السنية العراقية و«القاعدة»، ففتحوا حواراً سياسياً مع عدد من التنظيمات المسلّحة السنية في عهود رؤساء الوزراء المتعاقبين، اياد علاوي، وابراهيم الجعفري وصولاً إلى نوري المالكي، في ما يُسمّى جزءاً من «المصالحة الوطنية».
ومنذ أكثر من عام، استعادت المقاومة العراقية (غير التكفيرية) زمام المبادرة على حساب «القاعدة» في محاربة الأميركيين. واضطرّ الجانب الأميركي إلى الاعتراف بهذه الحقيقة في تقرير «بيكر ـــــ هاميلتون» العام الماضي، معتبراً أنّ الطرف المسؤول عن قتل القوات الأميركية في العراق، هو المقاومة السنية العراقية، لا التكفيريون من «القاعدة» المسؤولون عن المجازر الطائفية اليوميةوجاء ما كشفته صحيفة «الغارديان» البريطانية الشهر الماضي، عن تأليف سبع جماعات، من بين أهم المنظمات السنية العراقية المسلّحة التي تحارب الاحتلال الأميركي، لتحالف سياسي (المكتب السياسي للمقاومة العراقية) استعداداً للدخول في مفاوضات مع الجانب الأميركي إذا قرّر الانسحاب القريب من العراق، ليؤكّد أنّ المقاومة العراقية استعادت زمام المبادرة من «القاعدة». وكانت هذه التنظيمات السبعة واضحة عندما شجبت التصفيات الطائفية والتفجيرات الانتحارية التي تمارسها «القاعدة» ضد المدنيين العراقيين.
أمّا التقرير الأميركي الاستخباري، الذي أظهر أخيراً أنّ الغالبية العظمى من مقاتلي «القاعدة» هم أجانب يدخلون العراق من دول الجوار، وخصوصاً من السعوديين (80 في المئة) إضافة إلى مصريين وسوريين ويمنيين ومن افريقيا الشمالية، فيؤكّد بدوره أنّ الفرز بات واضحاً، بين مقاتلين عراقيين ضدّ الاحتلال الأميركي ـــــ البريطاني لبلادهم، ومقاتلين «أمميين» يأتون من كل أصقاع الأرض لفرض أجندات ايديولوجية تتخطّى التحرير من الاحتلال، لتصل إلى تأسيس أنظمة اسلامية من النوع الأصولي التكفيري في كلّ بلاد المسلمين.
وفي السياق، كان كلام المتحدّث باسم أحد التنظيمات السنية المسلّحة عبد الرحمن الزبيدي (أنصار الإسلام) معبّراً عن الكره الذي يسود بين «القاعدة» والتنظيمات السنية المقاومة. قال إن منظمته «انفصلت عن القاعدة لأن مقاتلينا صاروا يكرهون هذا التنظيم الذي يعطي انطباعاً للعالم بأن المقاومة في العراق هي إرهاب، ولأننا ضد القتل العشوائي ونرى أن القتال يجب أن يتركز على العدو فقط من دون أن يطال مواطنينا الشيعة».

إضاءة


التكفيريّة

يعرّف المتخصّص في الشؤون الاسلامية، سيّد سليم شهزاد، التكفيرية بـ المعتقد القديم في العالم الإسلامي، الذي شهد انبعاثاً في أوساط الإسلاميين المصريين تحديداً بعد هزيمة العرب في حرب حزيران 1967. وترتكز التكفيرية على قناعة مفادها أن ضعف الأمّة هو نتيجة انحراف المسلمين وابتعادهم عن دينهم؛ فكلّ مسلمٍ لا يمارس دينه هو كافر. وتدعو العقيدة التكفيرية المسلمين إلى مغادرة المجتمعات الإسلامية القائمة، بغية تكوين مجتمعات مستقلّة لمحاربة المسلمين الكافرين.
وتختلف أفكار التكفيريين عن عقيدة منظّري «القاعدة» في التسعينيات، الذين كانوا يسعون حصراً إلى طرد «قوات الاحتلال الصليبية» من ديار المسلمين؛ ويُعنى التكفيريون بـ «عدوّ الداخل» قبل العدو الخارجي. وهم يرفضون التمييز بين المسلمين والمسيحيين، أو الباكستانيين والأميركيين، أو حتى بين الرئيس الباكستاني برويز مشرّف والأميركي جورج بوش، إذ يجب، بحسب اعتقادهم، التخلّص من عدوّ الداخل قبل مواجهة «الغزاة».
ويرى التكفيريون المذهب الشيعي «انحرافاً غير مقبول» في الإسلام، ويبرّرون محاربته بأنها جزء من جهادهم، بل هي تتصدّره أحياناً.