حيفا ـــ فراس خطيب
إسرائيل هجّرت فلسطينيّي القرية وسلّمتها لـ«الفنّانين»... وحرمت أهلها الماء والكهرباء

بين الأصل الفلسطيني والصورة الإسرائيلية فرق شاسع خلقته سنوات من الحرمان والإهمال ومحاولات التهجير، جعلت من «عين حوض» الأصلية قرية للفنانين، ومن الصورة التي صنعها فلسطينيوها، على أمل عودة قريبة، رمزاً لتنكيل إسرائيلي ممنهج في كل نواحي الحياة، خدمة لتهجير جديد

اwلشارع الممتد من نهاية حيفا حتى جنوب فلسطين المحتلة، يقود المسافر نحو «طريق تل أبيب القديمة»، المتفرعة منها مداخل لبلدات يهودية، من طيرة الكرمل وصولاً إلى الطنطورة وقيسارية وأبعد، التي كانت، ومثلها المئات، بلداتٍ عربية قبل أن تستولي عليها سلطات الاحتلال وتهجّر أهلها.
هذه حقيقة قد تكون من أكبر مفارقات العالم، فأنت تعلم بأنَّها كانت عربية، ومن يسكنها أيضاً يعلم بأنها كانت كذلك، لكنه لا يعترف. وإذا اعترف تراه يبرّر اعترافه بعبارة «هذا هو الواقع الآن». المرور العادي من هناك، يجعلك رهينة لذكرى صارت عادية أيضاً.
«عين هود... يساراً»
تشير إحدى اللافتات على الطريق إلى اليسار، حيث قرية الفنانين «عين هود». الشارع المؤدي إلى القرية خالٍ ونظيف، الحفر معدومة، والأشجار الملقية بظلالها على الشارع الواسع، تجعل من السفر مهمة ممتعة. تنتشر على طرفي الطريق بلدات يهودية صغيرة، وكيبوتسات وتجمعات تعيش من الحياة رغدها.
في آخر الطريق يميناً، تقع القرية الفنية «عين هود»، بيوتها عربية، تاريخها عربي، تصميمها عربي أيضاً، لكن العرب هجّروا منها قسراً عام 1948، وممنوعون اليوم من أن يسكنوها، حتى لو كانوا فنانين. العرب اليوم، يسكنون على مقربة منها، لم يأخذوا من بيوتهم شيئاً سوى اسم القرية الأصلي «عين حوض»، وصار اسم «قرية الفنانين» الجديدة، المبنية على القديمة، هو «عين هود».
على بعد كيلومتر واحد تقريباً من «قرية الفنانين» تقع القرية العربية «عين حوض». سكانها، هم سكان «عين هود» الأصليون، هم ليسوا فنانين، اعتاشوا، قبل عام 1948 على فلاحة الأرض وتربية الماشية. هم أصحاب «بيوت الفنانين» القائمة اليوم. لكنهم يسكنون اليوم على بعد كيلومتر واحد منها. بنوا قريةً صغيرة ومؤقتة على أراضيهم الزراعية التي امتلكوها قبل عام 1948، على مقربة من قريتهم الأصلية على أمل العودة.
59 عاماً وهم يسكنون في المكان المؤقّت، في القرية المؤقتة، يطلّون على بيوتهم من شباك البيت.
في نهاية الشارع المؤدي إلى «عين هود» والبلدات المجاورة، هناك لافتة خضراء تشير إلى قرية «عين حوض» العربية. منذ اللافتة حتى أول بيت في القرية، هناك طريق إسفلتية تملؤها الحفر. دقيقة السفر العادية تستغرق على هذه الطريق خمس دقائق. تشق المركبة من هناك شارعاً يخترق الجبل. خطورة لمن لم يعتد عليها. نزول حاد، منعطفات خطرة. على طرفي الشارع المشابه للإسفلت هناك طريق باطونية صغيرة، شقها أهل البلد خصيصاً، على رغم محاولات المنع، لتوسيع الشارع.
يسكن القرية العربية اليوم، 250 فلسطينياً. يسكنون منذ التهجير في المكان نفسه. حاولت السلطات الإسرائيلية على مدار سنوات مضت، إخلاءهم من أماكنهم عن طريق سن قوانين. «كانت معركتنا من أجل البقاء، وبقينا»، يقول رئيس اللجنة المحلية للقرية، محمد أبو الهيجاء، الجالس في ساحة بيته المطل على «عين هود»، والموصول بالكهرباء قبل ثلاثة أسابيع فقط، بعد مطالبة 59 عاماً.
أبو الهيجاء حاد الملامح، من قادة النضال من أجل الاعتراف. تعدّى جيله الخمسين، يعرف تفاصيل مسطحات القرية وتواريخ سن القوانين عن ظهر قلب. قاد نضال القرية منذ عام 1978، وترأس اللجنة المحلية، الى حين ما يسمى بـ«الاعتراف الرسمي بالقرية».
يقول أبو الهيجاء «طبّقوا علينا قانون الحاضر الغائب، كما طبقوه على 250 ألف فلسطيني. ويعني أن الفلسطيني حاضر لدفع الضرائب، وغائبة حقوقه على أرضه ومكانه».
سكن أهالي القرية في أراضيهم الزراعية، لكنَّ هذا لم يرق للسلطات الاسرائيلية، فأصدرت أوامر بمصادرة الأرض التي حوّلت بعد عام 1965، الى أرض زراعية وكل البيوت المبنية فيها أصبحت مهدّدة بالهدم وغير قانونية تراجعياً، ما يعني إخراج البلدة كلها عن القانون. واستمرت إسرائيل في سن هذه القوانين التي تضيّق على السكان.
أعلنت السلطات أن المنطقة «متنزّه» عام 1971، ثم منطقة عسكرية، ووصلت الحالة الهستيرية الى منع الأهالي من تربية المواشي لأنَّها «تلحق الضرر بالمتنزّه».
هذه القوانين والممارسات لم تخرج أهالي البلدة، وأعلنت السلطة مع بداية الثمانينيات قوانين الربط، أي أنها لن تربط البلدة بأية خدمات، «لو كانوا يملكون السلطة على الهواء لمنعوه عنّا»، قال أبو الهيجاء.
أجبرنا على قبول المخطط!
تشكلت لجنة في القرية عام 1978 لإدارة شؤون الأهالي والمطالبة بـ«العيش بكرامة». كانت المطالبة بأبسط الأشياء. بماء وكهرباء ومسطح للقرية للبناء. يقول أبو الهيجاء «عام 1985، نظمنا تظاهرة شارك فيها الكثير من الداعمين لقضيتنا. وطالبنا الحكومة بالاعتراف بنا لنيل أدنى الحقوق. بعد التظاهرة الكبيرة، وبدلاً من أن تستجيب السلطات لنا، أصدرت أوامر هدم بحق كل البيوت».
بعد تلك الحادثة، توجه أهالي القرية إلى لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية. وتأسست رسمياً «لجنة الأربعين» في اجتماع عُقد في قرية عين حوض، بمشاركة عدد من سكان القرى العربية غير المعترف بها، من مختلف أنحاء البلاد.
وقد جاء تأسيس «لجنة الأربعين» بعد اتضاح حجم المأساة التي تتهدد سكان عشرات القرى العربية غير المعترف بها، بالإضافة إلى عين حوض التي أوصت السلطات من خلال لجنة حكومية بهدمها بادعاء عدم قانونيتها. وحددت اللجنة منذ تأسيسها، هدفاً أساسياً يتمثل في الكفاح من أجل إلغاء توصيات تلك اللجنة، المعروفة باسم لجنة «ماركوفيتش»، والعمل لتحقيق الاعتراف الرسمي بهذه القرى وتمثيلها على المنابر كافة، وتجنيد الدعم، محلياً ودولياً، لتحصيل حقوقها وتحسين ظروفها المعيشية وتحصيل الحقوق والمساواة الكاملة للسكان العرب.
وبادرت «لجنة الأربعين» إلى مواجهة مخططات السلطة قضائياً، وإعداد مخططٍ هيكلي للقرى غير المعترف بها في ألوية الشمال وحيفا والمركز والنقب، أُنهي الجزء الأول منه عام 1989، والثاني 1995، ومطالبة السلطات بتبنّيه وحل قضية هذه القرى على أساس مقترحاته التخطيطية ـــــ المهنية التي تضمن البقاء لهذه القرى وتطورها في إطار المخطط الهيكلي العام وترسيخ صمود الأهالي في قراهم.
بعد عشرات السنين، وتحديداً عام 1994، اعترفت اسرائيل رسمياً بعين حوض، لكنَّ الاعتراف ظل على الورق. ولم تعترف السلطات بالمخطط الهيكلي الذي أعدَّه أهالي القرية. واختزلت مساحة الخريطة الهيكلية التي امتدت على 170 دونماً إلى 80 دونماً تشمل منطقة عسكرية وشوارع وأرضاً للبناء.
ويشير أبو الهيجاء الى أن القبول لا يعني الرضا في مثل هذه الحالة، لكنَّه يعتبر «بداية نحو الأفضل».
عاشت القرية، ولا تزال، من دون ماء وكهرباء، تعتمد في تيسير ظروف حياتها على المولدات. وقبل ثلاثة أسابيع قدمت شركة الكهرباء مدججة ليس فقط بالمعدات، بل بالصحافيين أيضاً، لإعلان ارتباط بيتين فقط بالكهرباء. لكنَّ غالبية بيوت القرية لا تزال من دون كهرباء.
ويقول أبو الهيجاء «نحن لسنا مستعدين اليوم للانتظار 60 عاماً إضافياً من أجل الارتباط مرة أخرى. لدينا مدرسة ابتدائية من دون كهرباء (يجبر طلاب الثانوية على السفر الى حيفا للتعلم)، فإذا لم تصلها في الأول من أيلول مع افتتاح السنة الدراسية فسنعرف كيف نزوّدها الكهرباء».

التاريخ المفقود

في الموقع الرسمي على شبكة الإنترنت لـ«عين هود»، لا ذكر لتاريخ المكان مطلقاً. جاء في نص التعريف: «قرية الفنانين، عين هود، تأسست رسمياً عام 1953 على أيدي بعض الفنانين. «عين هود» هي قرية الفنانين الوحيدة في إسرائيل، وواحدة من بعض القرى المشابهة في العالم. تقع على قطعة من جبل الكرمل. تحيطها كروم الزيتون العتيقة، وتلال خضراء تمتد نحو البحر. هذه الأجواء كلها، تحول القرية إلى محيط يحفز على أجواء خاصة بالفنانين».
ويضيف التعريف «يعيش في عين هود 150 فناناً من مجالات إبداعية مختلفة. وكبر اليوم الجيل الثالث من أبناء عائلات الفنانين، منهم من تحوّل بفضل الأجواء والوراثة الى فنانين بقواهم الذاتية. يعيش في عين هود فنانون ومصورون وعاملو سينما ومصممون وموسيقيون وصناع للزخارف ومصممون في مجالات مختلفة، منهم من هو معروف جداً في اسرائيل ومنهم أيضاً من يتمتع بشهرة عالمية. غالبيتهم شاركوا في معارض فنية داخل البلاد وخارجها. هناك عشرة من سكان القرية فازوا بجائزة اسرائيل التي تعتبر من أكبر الجوائز».
لا شيء يشير إلى أنَّ «قرية الفنانين»، أصلها عربي، وأهلها هجّروا منها قسراً.

مطعم عربي فلسطيني
أبو الهيجاء يدير مطعماً كبيراً في عين حوض. يطل على منظر خلاب. يقدّم فيه المأكولات العربية، لكن للمفارقة كل الزبائن من اليهود القادمين من المركز الى الشمال. يأكلون في المكان. والعرب، كما في كل مكان، متسامحون مع الضيوف مهما كانوا. يأكل هؤلاء الطعام العربي، ويقولون إنَّهم «خجولون من كون الدولة لا تقدم الخدمات للقرية».
ويشير أبو الهيجاء إلى أنَّ «مواقف اليهود لا تشغله». ويضيف «أنا أعرف هذه المواقف». ويتابع «لا يمين ولا يسار في التعامل مع قضية العرب. كلهم لهم الرأي نفسه».
عين حوض اليوم تجسّد حالةً من البقاء والتصميم على البقاء أيضاً. هي حالة فلسطينية أخرى تعيش ردحاً من الذكرى. العودة من هناك تكون أيضاً عن طريق الشارع الإسفلتي الضيق. هناك بدأت السلطات الاسرائيلية شق شارع واسع للقرية، بدأوا العمل عليه، وتوقفوا لسبب «مالي» فيما لا شيء ينقص القرى اليهودية المجاورة.
قد يكون هذا المشهد، بين «عين هود» و«عين حوض»، صورة مختصرة عن التاريخ والحاضر، منذ النكبة حتى الآن. كيف من الممكن أن يتمتع أناس بأجمل معطيات الحياة، بينما على بعد مئات الأمتار يعيش أناس من دون كهرباء ولا بنى تحتية. ليست الأمتار هي التي تفصلهم، بقدر ما يفعل التاريخ
ذلك.