غزة ــ رائد لافي
يوصم قطاع غزة منذ سنوات طويلة بالتشدّد بفعل الالتزام الشديد بالعادات والتقاليد، وحال التدين، التي تغلب على سكانه البالغ تعدادهم أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، نصفهم تقريباً من فئة الشباب، وبالتالي كان من الطبيعي أن يكون القطاع حاضناً للعديد من الحركات الإسلامية التي تتراوح بين «الاعتدال» و«التشدّد»، وحتى الالتصاق بتنظيم «القاعدة»


تحمّل قطاع غزة، الذي تقطنه غالبية من اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّروا من أراضيهم وقراهم إبان قيام الدولة العبرية في عام 1948، العبء الأكبر على صعيد مقاومة الاحتلال منذ بداية تبلور العمل المنظم لفصائل المقاومة في أعقاب الهزيمة القاسية التي ألحقتها إسرائيل بالجيوش العربية في حرب عام 1967.
وكان انخراط شباب القطاع في نضال المحتل، وشغلهم بذلك في غالبية الأحيان عن حياتهم ومستقبلهم الشخصي، والزج بالآلاف منهم في غياهب السجون، والقيود الشديدة التي فرضتها قوات الاحتلال على حياة السكان وتنقلاتهم ومنع الكثيرين من السفر بغرض التعليم، عوامل دفعت إلى لجوء المجتمع عموماً نحو المزيد من التديّن، الذي بدأت ملامح اتخاذه أشكالاً تنظيمية في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي.
وظل التديّن «متقوقعاً» داخل المساجد المنتشرة على امتداد القطاع، من دون معارضة أو ملاحقة من سلطات الاحتلال، التي سمحت ببناء المساجد ما بقيت بعيدة عن العمل السياسي والنضالي ضدها، في وقت اقتصرت فيه الملاحقة على التيار اليساري والوطني الذي خاض غمار مقاومة الاحتلال مبكراً عن التيار الإسلامي، وفي مقدمه جماعة «الإخوان المسلمين».
نعت القطاع بالتشدد والانغلاق ظل «حبراً على ورق» من دون قرائن تدعمها في الميدان، إلى أن خرج خلال العامين الماضيين من أوساط التيار الإسلامي القائم على «الدعوة بالطرق السلمية»، جماعات تؤمن بـ«التغيير بواسطة العنف»، أفضل الطرق للقضاء على «المنكر والفساد» وصولاً إلى «أسلمة المجتمع».
في الخامس من شهر أيار الماضي، قتل الشاب سليمان الشاعر، أحد مرافقي النائب «الفتحاوي» ماجد أبو شمالة، في أحداث عنيفة تخللها إلقاء قنابل يدوية محلية الصنع وإطلاق نار، خلال احتجاج من جماعة إسلامية متشدّدة على مهرجان احتفالي أقامته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» في المدرسة العمرية في مدينة رفح جنوب القطاع، بدعوى أنه مختلط بين الشبان والفتيات، بما يخالف تعاليم الشريعة الإسلامية.
خطورة الحادث، وحوادث تفجير أخرى بدعوى «محاربة انتشار الرذيلة والفساد»، ألقت الضوء على جماعات دينية متعدّدة تشكل في مجموعها الحركة السلفية التي تعمل في القطاع منذ سنوات طويلة، من دون أن يعرف عنها في السابق الإيمان بالعنف وسيلةً لتحقيق أهدافها في نشر الدعوة والتعاليم الإسلامية.
الجماعات السلفية
بدأت الجماعات السلفية، التي تنكر أنها أحزاب أو قوى سياسية، عملها في قطاع غزة في السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي على أيدي طلبة ومدرسين تلقوا تعليمهم في السعودية ودول الخليج الأخرى، وعندما عادوا إلى غزة، اختاروا مواصلة الدعوة التي حملوها من علماء كبار آمنوا بالنهج السلفي طريقاً لإعادة الناس إلى «طريق الإسلام القويم».
وبقي نشاط السلفيين في غزة شبه محدود في بداية الثمانينيات، إلا أنه ازداد توسّعاً، وبشكل ملحوظ، مع عودة السلطة الوطنية في عام 1994، التي منحت التراخيص لبعض الجمعيات التي أقامها السلفيون، بل دعمت أحزاب إسلامية صغيرة، في محاولة لإضعاف حركة «حماس» التي كانت في أوج قوتها في السنوات الأخيرة من الانتفاضة الكبرى (1987ـــــ1993).
ويُعَدُّ الشيخ سليم شراب، الذي توفي في غزة عام 1985، صاحب الفضل الأول، كما يؤكد السلفيون، في إيصالهم بالعلماء في مكة وفي باقي دول العالم.
والشيخ شراب يُعَدُّ، بهذه الصفة، المجدّد الأول لـ«التيار السلفي» في غزة، وينظر إليه السلفيون على اختلاف مؤسساتهم ومشاربهم باحترام شديد ويذكرون «أفضاله» وأفعاله على هذه الدعوة.
ومع زيادة إقبال الناس في غزة على التديّن لاعتبارات مختلفة، اتسع نشاط السلفيين، لتنبثق منهم جماعات ومؤسسات مختلفة أبرزها في الوقت الحالي، ثلاث مؤسسات سلفية، تشمل «المجلس العلمي للدعوة السلفية»، و«دار الكتاب والسنة»، و«طلاب العلم»، إلى جانب جماعات وأفراد أقل أهمية يلتف حولها مريدون وأتباع وينشطون في المساجد والجمعيات ومراكز تحفيظ القرآن.
ولا يقتصر نشاط المجموعات السلفية على الدعوة إلى العودة للدين وتعليم الناس أمور الشريعة، بل مع ازدياد نشاطهم، بدأت بعض المؤسسات عندهم في تقديم خدمات تعليمية وطبية واجتماعية إلى جانب النشاط في كفالة الأيتام ورعاية المعوزين وإقامة المشاريع الاستثمارية.
وبحسب الباحث المهتم في شؤون الجماعات الإسلامية الشيخ نادر أبو شرخ، فإن أول ظهور في القطاع لأناس ينتهجون السلفية يعود إلى السنوات الأولى من عقد الثمانينيات، التي شهدت إقبالاً من الكثيرين لتلقي العلم الشرعي على يد «أساتذة» من المشايخ الذين يحملون هذا النهج في السعودية، مشيراً إلى أن هؤلاء الطلاب عادوا إلى القطاع بعد انتهاء دراستهم، ليبدأوا في الترويج لهذا النهج وكسب المؤيدين له من خلال الخطب والمواعظ في المساجد في بادئ الأمر، ومن ثم عبر العمل الخيري والإغاثي.
والسلفية، في نظر أصحابها والمؤمنين بها، ليست حزباً أو حركة سياسية، بل منهج من التزم به. ووفقاً لأبو شرخ، فإن غالبية الجماعات السلفية الدعوية تنأى بنفسها عن العمل السياسي، لكونها تؤمن وتلتزم بولي الأمر ما لم يأت بالكفر البواح.
ويرى أبو شرخ أن أتباع التيار السلفي بدأوا ينشطون بشكل ملموس في السنوات الأخيرة، وخصوصاً في مدينتي رفح وخان يونس المتجاورتين، جنوب القطاع، مشيراً إلى أن «السلفيين معروفون بالتزمت إزاء التزام السيرة النبوية، والسير على طريق الصحابة والسلف الصالح في كل صغيرة وكبيرة».
ويتركز نشاط الجماعات السلفية في القطاع في بناء المساجد والجمعيات الخيرية والمؤسسات التعليمية الدينية، في وقت ينشط فيه عدد من خطبائهم ومشايخهم المفوهين في حضّ الناس على الالتحاق بهم في الاقتداء بالرسول والصحابة والتابعين، مستخدمين في سبيل ذلك سيلاً من الأحاديث النبوية الشريفة التي يحفظونها بالسند كما هو معروف عنهم.
ولا توجد شخصية مركزية يلتف حولها أتباع المنهج السلفي في القطاع، بحسب أبو شرخ، لكنهم في الوقت نفسه يجمعون على شراب الذي كان أكثرهم دعوة ونشاطاً، وكان أول من بشر بهذا المنهج في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وذلك من خلال نشاطه البارز في معهد الأزهر الديني، والجامعة الإسلامية، والمجمع الإسلامي الذي يُعَدُّ أحد مؤسسيه مع مؤسس حركة «حماس»، الشيخ الشهيد أحمد ياسين.
ورغم أن السلفيين في القطاع يستقون أفكارهم من المنبع نفسه، إلا أن مؤسساتهم متعددة ولا ترتبط في ما بينها بأي رابط ظاهر. ووفقاً لعضو مجلس إدارة جمعية دار الكتاب والسنة إبراهيم الأسطل، فإن تعدّد الجمعيات لا يعني تعدّد الجماعات، فهي جمعيات خيرية لكل واحدة مصالحها ونشاطاتها، مقراً في الوقت نفسه «بأننا نؤمن بأن هذا الجهد لو كان مجتمعاً لكان أكثر فائدة». وقال: «هناك بعض المدارس السلفية ترى في وجود الجمعيات لوناً من ألوان التحزب، لذلك لا يبيحون العمل في إطار هذه الجمعيات ويفضلون العمل بشكل فردي أو في مجموعات دعوية»، مشيراً إلى أن «هذا رأيهم واجتهادهم، لكن نرى أن الجمعية وسيلة شرعية نستطيع من خلالها أن نقدّم خدمات لعموم المسلمين».
المجلس العلمي للدعوة السلفية
تضم مدينة خان يونس المقارّ الرئيسية لأبرز جمعيتين تنتميان إلى المؤمنين بالنهج السلفي، وهي المجلس العلمي للدعوة السلفية، ودار الكتاب والسنة. وقال رئيس مجلس إدارة المجلس العلمي للدعوة السلفية الشيخ ياسين الأسطل إنه تلقى العلم من «فحول العلماء»، من أمثال الشيخ ناصر الدين الألباني، الذي ينظر إليه السلفيون على أنه مجدّد القرن العشرين، بخلاف نظرة جماعة «الإخوان» المسلمين التي ترى أن مجدّد القرن هو حسن البنا. وأشار إلى أنه تلقى «العلم الشرعي كذلك من المفتي السابق للسعودية الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي يعتبر العلم الظاهر من أعلام الأمة الإسلامية، ومن شيخه المباشر الشيخ حماد النصاري محدث المدينة المنورة الذي لازمه في منزله لسنوات طويلة يقرأ عليه العلم ويشرح»، موضحاً أن الفضل في اتصاله المباشر للتعلّم والتأدّب على أيدي العلماء في السعودية يعود إلى الشيخ شراب.
ويعتقد الأسطل أن «الدعوة السلفية في فلسطين موجودة منذ فتحها الصحابة، وتوالوا في زيارتها لأسباب عديدة، لكن الفضل في إعادة إحياء الدعوة، وخصوصاً في القطاع، يعود إلى رجال من أمثال الشيخين حسن ومصطفى العقاد والشيخ كامل البلتاجي والشيخ سليمان أحمد الأسطل، ومفتي غزة الحالي الشيخ عبد الكريم الكحلوت، وفي مقدمهم جميعاً الشيخ شراب».
وبدأ الأسطل الدعوة إلى المنهج السلفي بعد تخرجه من الجامعة في السعودية عام 1984 وتركز عمله، كما قال، في الدروس والخطب والاتصال المباشر مع الناس وحل خصوماتهم وفك منازعاتهم ومساعدة ذي الحاجة منهم.
لكن نشاط الأسطل كان أقرب إلى النشاط الفردي بعيداً عن المؤسسات والجمعيات، حتى قيام السلطة الفلسطينية في عام 1994، حيث حصل على ترخيص من وزارة الداخلية لجمعية تحمل اسم المجلس العلمي للدعوة السلفية. وقال: «منذ ذلك الوقت، نقوم بجهودنا وأعمالنا المنسجمة مع أعمال الآخرين وجهودهم»، حيث يقدّم المجلس العلمي للدعوة السلفية خدمات اجتماعية مثل كفالة الأيتام والأسر، إلى جانب الخدمات الصحية التي يقدمها مركز طبي يقوم على خدمة الناس بلا تفريق، فضلاً عن المساعدات الإغاثية غير الدورية.
ولا يستطيع الأسطل تقدير عدد المستفيدين من الخدمات التي يقدمها المجلس العلمي للمواطنين، إلا أنه يؤكد وجود أكثر من ثلاثة آلاف يتيم منتشرين في المدن والمحافظات الفلسطينية يستفيدون من الكفالات المالية.
ويؤمن الأسطل، المعروف عنه ولعه الشديد وحبه للزعيم الراحل ياسر عرفات، بوجوب طاعة «ولاة الأمر»، واصفاً ولي الأمر (الرئيس) بأنه بمثابة الرأس من الجسد.
دار الكتاب والسنة
نشأت جمعية دار الكتاب والسنة في بداية عقد الثمانينيات أسوة بباقي الجمعيات والجماعات التي تؤمن بالمنهج السلفي، وكانت بداية انطلاقها تحويل سينما الحرية في مدينة خان يونس إلى مكتبة علمية، بحسب عضو مجلس إدارة الجمعية الشيخ إبراهيم الأسطل.
وقال الأسطل: «في بداية الثمانينيات كان هناك نشاط دعوى مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإطعام الجائع، إلا أن هذا النشاط تطور بعد قدوم السلطة الفلسطينية، والحصول على ترخيص لإقامة الجمعية التي لها نشاطات إغاثية متنوعة إلى جانب النشاطات العلمية والدعوية، وأبرزها الاهتمام بمدارس تعليم الحديث، ورياض الأطفال».
وأشار الأسطل إلى أن الجمعية تملك مشاريع استثمارية ناجحة مثل المطابع والمخابز ومساكن الإيجار، التي تصب في «صالح الدعوة»، وخدمة لعدد كبير من الأيتام الذين يتقاضون رواتب شهرية من الجمعية.
طلاب العلم
«طلاب العلم»، اسم يطلقه عدد من السلفيين على أنفسهم؛ فالسلفي من أتباع هذا النهج يعرّف عن نفسه بـ«طالب علم»، فيما يرفض بشدة وصفه بالشيخ أو الداعية، كما يرفض تصنيفهم حزباً أو حركةً أو جماعةً.
وقال «طالب العلم» سمير المبحوح (52 عاماً): «نحن طلبة علم تلقينا العلم من منابعه الأصلية عن طريق العلماء الربانيين الذين يشهد لهم العالم». وأضاف: «نحن لا نقلد ولا نتعصب لأحد ونتمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف، لذا فإننا نحترم ونوقر العلماء ونرفض الحزبية المقيتة التي فرقت الأمة إلى شيع وأحزاب». وأضاف: «ندين لولاة الأمر بالنصيحة سراً، ونرفض كل الأعمال المخالفة لشرع الله وندعو إلى وحدة الصف على منهاج النبوة بالحكمة والموعظة الحسنة»، مشيراً إلى أن دعوتهم تنشط في المساجد فقط وليس لهم مراكز محددة.
ويوجد «طلاب العلم»، بحسب مصادر متعددة، في ثلاثة مساجد تقع جميعها في مدينة غزة. وأشار المبحوح إلى أن «هناك طلبة علم لهم حلقات يدرّسون فيها الطلبة والناس»، امتثالاً للدعوة بالحسنى، بعيداً عن أسلوب العنف والبطش والشدة، الذي يؤمنون به.
«التبليغ والدعوة»
يرفض كثير من السلفيين اعتبار جماعة «التبليغ والدعوة»، أنها من بين جماعات المؤمنين بالنهج السلفي، لاختلافهم معها في كثير من الأمور.
ويتميّز المتشددون في المنهج السلفي بأنهم يفوقون نظراءهم في جماعة التبيلغ والدعوة على صعيد العلم الشرعي، والحرص على تبيان الحديث بالدليل، والإغراق في تفاصيل وجزيئات الأمور، فيما تعتمد جماعة التبليغ على تبسيط الأمور للوصول إلى البسطاء والعامة.
وقال أمير جماعة «التبليغ والدعوة» في غزة الشيخ علي الغفري إن «فكرة الدعوة والتبليغ بدأت في الهند منذ زمن بعيد يعود إلى السنوات التي تقع ما بين 1910 و1920، وكان صاحب الفضل في إطلاقها العالم محمد الياس». وأشار إلى أن فكرة الدعوة والتبليغ بدأت في فلسطين عام 1978 على يد الشيخ أحمد الناجي، الذي تعرف إلى الدعوة في الأردن وعاد إلى قرية بيت عور التحتا في مدينة رام الله في الضفة الغربية، وأسس مركزاً لها هناك وبدأ يدعو الناس. وأضاف أن الشيخ الناجي جاء بعد ذلك بالجماعة إلى القطاع عن طريق الشيخ محمد سليمان أبو كوارع والشيخ فوزي أبو مصطفى. وأشار إلى أن الجماعة تملك الآن خمسة مراكز في الضفة الغربية وثلاثة مراكز في الأراضي المحتلة عام 1948، ومركزاً واحداً في غزة.
ولخص الغفري منهج الجماعة وفكرها بأنه يقوم على تذكير الناس بطاعة الله وأداء الصلاة وإحياء السنن، بالاعتماد على الدعوة الحسنة والحكمة، وليس بالشدة أو قهر الناس على الطاعة. وبينما تقصر الجماعات السلفية في فلسطين عملها في «النطاق الجغرافي الفلسطيني» المتاح لها، فإن جماعة التبليغ والدعوة تحض أتباعها على «الخروج في سبيل الله» في أرجاء المعمورة للدعوة إلى الله، حيث تتفاخر الجماعة بأنها نجحت في إقناع الكثيرين على مستوى العالم باعتناق الإسلام.
وفي خصوص علاقة الجماعة بالسلطة الحاكمة، وصف الغفري هذه العلاقة بأنها قائمة على المودة وعدم التعارض، مشيراً إلى أن السلطة تعمل على توفير الأمن وإقرار القوانين وإقامة العدل، في حين دور الجماعة هو دعوة الناس إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه.


اجزاء ملف "إسلاميّو غزّة":
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالت | الجزء الرابع